إنّ من الأمثلة الحية والتي أشار إليها القرآن هذا العلو الكبير لبني إسرائيل، الذين لم يأخذوا العبرة ممّا حدث لهم قديما على يد فرعون حين استعلى عليهم وأذلهم.. كما لم يأخذوا العبرة من مأساتهم على يد هتلر حين سامهم سوء العذاب فشتتهم في بقاع الأرض!فتلك طبيعتهم يخضعون ويخنعون حتى إذا نفّس الله عنهم كربتهم مارسوا دور الظالم لهم!ونسوا ما حدث لهم بالأمس.. تغُرُّهم قوتهم وإمكانياتهم وإقبال الأيام عليهم، وغفلوا أنّ الأيام دول!وتلك هي مصيبتهم في أنفسهم.
ويرجع هذا العلو إلى تلك النفسية التي يعيشها اليهود قديما وحديثا، فهم أمّة مشرذمة ممزقة تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، تسودهم روح العداوة والبغضاء، يقول تعالى:’’وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة‘‘(١)، ويشعرون بالنّقص وعقدة الجبن والخوف والشح،’’ولتجدنّهم أحرص النّاس على حياة‘‘(٢)،(وتنكير حياة للتحقير، أي أنّهم أحرص الناس على أحقر حياة)(٣). من هذه الأشلاء الإنسانية والعقد النفسية المُركبة كان مَنْبَتُ علوهم وإفسادهم؛ذلك أنّ المشاعر النّفسية المنحطة لا تنمو إلاّ في بيئة محطمة من الداخل كما هو الحال عند يهود.
إنّهم يقومون بنفس الدور الذي مارسه فرعون ضدهم؛فيقتلون وينهبون ويُذلّون النّاس ويرهبونهم بوسائل يطول الحديث عنها، فلم يتركوا شكلا من أشكال العذاب والإهانة والقمع إلاّ ومارسوه بعنجهية وغطرسة ظاهرة جليّة. تسمع في نبرتهم وترى في كلّ حركاتهم نَفَسَ الاستعلاء والتَّرفع.. وتلك هي الحقيقة التي أخبرنا القرآن بها’’وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدنّ في الأرض مرتين ولتعلنّ علوا كبيرا‘‘(٤). والمقصود في الأرض(أرض الشام وبيت المقدس وما والاها، وأراد بالعلو التكبر والبغي والطغيان والاستطالة والغلبة والعدوان)(٥).

(١) المائدة: ٦٤].
(٢) البقرة: ٩٦].
(٣) فتح القدير(١/١١٥).
(٤) الإسراء: ٤].
(٥) تفسير القرطبي(١٠/٢١٤)مع بعض التصرف.


الصفحة التالية
Icon