إنّنا نستطيع الانعتاق من النّظم الاستبدادية حين ننعتق من الاستعباد للشهوة والخوف والتقاليد الميتة، وحين نعلو عن حطام الدنيا ونُقبل على الآخرة. ولنا في امرأة فرعون مثال يُحتذى في القدرة على التحرر من أعتى صور الرق!فهي في رغد من العيش والجاه والمنصب.. ولكنّها مسترقة في فكرها وعقيدتها.. فأبت أن تكون مسترقة بأعظم جزء يُعبِّر عن ماهية الإنسان، وأعلنت إيمانها وتحمَّلت تبعات هذا الإعلان فتحررت.
إنّ الانعتاق من النّظم الاستبدادية وحل مشكلة التفرد بالحكم غاية وهدف، ولتحقيقها في الواقع لا بدّ من مرجعية ثابتة تتمثل بشرع الله، تُقيّد الحاكم والمحكوم حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا بدّ من صفات خاصة تُقيدنا في اختيار الخليفة، ولا بدّ من وعي المسلمين لدينهم كي يكونوا أدوات مراقبة وإصلاح وتقويم إن حصل خلل ما؛ذلك أنّ تقويم الحاكم من صفات الأمم الحيَّة.
ثمّ لا بدّ من تعميق مفهوم الشورى وتأصيله كركن أساسي في النّظام السياسي، وجعل الشورى ثقافة شاملة لحياة المسلمين في جميع أشكالها في الأسرة والمدرسة والشارع.. ذلك أنّ التنشأة الإسلامية على الشورى تمنعنا من أن نكون مستبدين إن نحن تسلمنا مقاليد الحكم؛ذلك أنّ العيش تحت الاستبداد لفترات طويلة تُنتج آثارا نفسية خطيرة حين تحمل الجماهير فكرة الاستبداد، فكم من مخاصم للمستبد صار مستبدا حينما صار هو في سدة الحكم! وهذا ما يُرشد إليه قوله تعالى حكاية لقول امرأة فرعون:’’ونجني من فرعون وعمله‘‘(١)، أي من كفره وظلمه وعذابه(٢)، فهي لم تطلب النّجاة من فرعون وحسب، بل وطلبت النّجاة من عمله، فقد ينجو المسلم من الظلمة ولكنّه قد لا ينجو من الظلم، فيصير ظالما كما فعل الظالمون ومستبدا كما كان المستبدون.

(١) التحريم: ١١].
(٢) انظر: تفسير القرطبي(١٨/٢٠٣).


الصفحة التالية
Icon