وقوله:’’مكانا سوى‘‘، أي( مكانا مستويا من الأرض لا وعر فيه ولا جبل ولا أكمة ولا مطمئن بحيث يستر الحاضرين فيه بعضهم عن بعض، ومراده مكانا يتبين الواقفون فيه ولا يكون ما يستر أحدا منهم، ليرى كل ما يصدر منك ومن السحرة، وفيه من إظهار الجلادة وقوة الوثوق بالغلبة ما فيه )(١)، فكانت كل هذه الترتيبات وبالا عليه، حيث كشفت الحقيقة- التي طالما اجتهد موسى عليه السلام لإظهارها وإبرازها للنّاس-كشفا هائلا وبشكل لايدع مجالا لأيّ شك أو ريب، فكان فرعون بغروره ووهمه أن فعل ما يخدم قضية موسى عليه السلام خدمة جليلة كبيرة ربما لم تكن حتى في حساب موسى عليه السلام نفسه.
ومن دلائل وهم فرعون وغروره قوله للسحرة حين آمنوا:’’ولتعلمنّ أيّنا أشد عذابا وأبقى‘‘(٢)، والمعنى(ولتعلمنّ أينا يريد به نفسه وموسى عليه الصلاة والسلام لقوله: آمنتم له قبل أن آذن لكم، واللام مع الإيمان في كتاب الله تعالى لغيره تعالى، وهذا إمّا لقصد توضيع موسى عليه الصلاة والسلام والهزء به لأنّه لم يكن من التعذيب في شيء، وإمّا لإراءة أن إيمانهم لم يكن عن مشاهدة المعجزة ومعاينة البرهان بل كان عن خوف من قبل موسى عليه الصلاة والسلام، حيث رأوا ابتلاع عصاه لحبالهم وعصيهم فخافوا على أنفسهم أيضا. وقيل: يريد به رب موسى الذي آمنوا به بقولهم: آمنا برب هارون وموسى )(٣). وعلى كلا الوجهين فإنّ هذا الموقف المتشدد والمتشنج من فرعون وتهديده للسحرة بهذه الصيغة-بعد رؤيته للمعجزات وما جرى من إيمان السحرة-لأكبر دليل على غروره، فالقوة الظاهرة بين يديه من الجند والملأ والقوم أوهمته بالقدرة والاستطاعة وعمته عن إدراك الحقائق الكبرى التي جرت بين يديه.

(١) قال الألوسي: ( وهذا المعنى عندى حسن جدا واليه ذهب جماعة)روح المعاني(١٦/٢١٧)، وانظر: تفسير الطبري(١٦/١٧٦).
(٢) طه: ٧١].
(٣) تفسير أبي السعود(٦/٢٩)وانظر: تفسير ابن كثير(٣/١٦٠)وتفسير الطبري(١٦/١٨٩)وتفسير الثعالبي(٣/٣٣).


الصفحة التالية
Icon