بَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ فِي الدِّيَاتِ، فَأُمِرُوا بِهِ بِالِاتِّبَاعِ بِالْمَعْرُوفِ، وَأُمِرَ الْقَاتِلُ بِالْأَدَاءِ إلَيْهِمْ بِإِحْسَانٍ، وَيَكُونُ عَلَى اخْتِلَافٍ فِيهِ بَيَانُ حُكْمِ الدَّمِ إذَا عَفَا عَنْهُ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ.
فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا عَلَى اخْتِلَافِ مَعَانِيهَا تَحْتَمِلُهَا الْآيَةُ، وَهِيَ مُرَادَةٌ مِنْ غَيْرِ إسْقَاطِ شَيْءٍ مِنْ لَفْظِهَا.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : وَمَا تَأَوَّلَهُ الْمُخَالِفُونَ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ لِلْوَلِيِّ بِاخْتِيَارِهِ مِنْ غَيْرِ رِضَى الْقَاتِلِ تَحْتَمِلُهُ الْآيَةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا ؛ إذْ لَيْسَ فِيهِ نَفْيٌ لِتَأْوِيلَاتِ الْآخَرِينَ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ :﴿ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ ﴾ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَرَكَ لَهُ، مِنْ قَوْلِهِمْ :" عَفَتِ الْمَنَازِلُ :" إذَا تُرِكَتْ حَتَّى دُرِسَتْ، وَالْعَفْوُ عَنْ الذُّنُوبِ تَرْكُ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا، فَيُفِيدُ ذَلِكَ تَرْكَ الْقَوَدِ إلَى الدِّيَةِ.
قِيل لَهُ : إنْ كَانَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَوْ تَرَكَ الدِّيَةَ، وَأَخَذَ الْقَوَدَ أَنْ يَكُونَ عَافِيًا ؛ لِأَنَّهُ تَارِكٌ لِأَخْذِ الدِّيَةِ، وَقَدْ يُسَمَّى تَرْكُ الْمَالِ وَإِسْقَاطُهُ عَفْوًا، قَالَ اللَّهُ :﴿ فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾ فَأَطْلَقَ اسْمَ الْعَفْوِ عَلَى الْإِبْرَاءِ مِنْ الْمَالِ.
وَمَعْلُومٌ عِنْدَ الْجَمِيعِ امْتِنَاعُ إطْلَاقِ الْعَفْوِ عَلَى مَنْ آثَرَ أَخْذَ الْقَوَدِ وَتَرَكَ أَخْذَ الدِّيَةِ، فَكَذَلِكَ الْعَادِلُ عَنْ الْقَوَدِ إلَى أَخْذِ الدِّيَةِ لَا يَسْتَحِقُّ اسْمَ الْعَافِي ؛ إذْ كَانَ إنَّمَا اخْتَارَ أَحَدَ شَيْئَيْنِ كَانَ مُخَيَّرًا فِي اخْتِيَارِ أَيِّهِمَا شَاءَ ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَحَدِ شَيْئَيْنِ فَاخْتَارَ أَحَدَهُمَا كَانَ الَّذِي اخْتَارَهُ هُوَ حَقَّ الْوَاجِبِ لَهُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ عِنْدَ فِعْلِهِ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَيْرَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ اخْتَارَ التَّكْفِيرَ بِالْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ كَانَ الْعِتْقُ هُوَ كَفَّارَتَهُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَيْرَهُ، وَسَقَطَ عَنْهُ حُكْمُ مَا عَدَاهُ