بِالْمُزْدَلِفَةِ وَلَا رَمْيُ الْجِمَارِ مَعَ إمْكَانِهِمَا لِأَنَّهُمَا مُرَتَّبَانِ عَلَى مَنَاسِكَ تَتَقَدَّمُهُمَا.
كَذَلِكَ لَمَّا كَانَ الْحَلْقُ مُرَتَّبًا عَلَى أَفْعَالِ أُخَرَ، لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ قَبْلَهُمَا نُسُكًا فَقَدْ سَقَطَ بِمَا ذَكَرْنَا اعْتِرَاضُ السَّائِلِ لِوُجُودِنَا مَنَاسِكَ يُمْكِنُهُ فِعْلُهَا، وَلَمْ تَلْزَمْهُ مَعَ ذَلِكَ عِنْدَ كَوْنِهِ مُحْصَرًا.
فَإِنْ احْتَجَّ مُحْتَجٌّ لِأَبِي يُوسُفَ بِقَوْلِهِ :﴿ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ ﴾ فَجَعَلَ بُلُوغَهُ مَحَلَّهُ غَايَةً لِزَوَالِ الْحَظْرِ، وَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْغَايَةِ بِضِدِّ مَا قَبْلَهَا، فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ :" وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيَ مَحِلَّهُ فَإِذَا بَلَغَ فَاحْلِقُوا " وَذَلِكَ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْحَلْقِ.
قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ ؛ لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ هِيَ ضِدَّ الْحَظْرِ كَمَا أَنَّ الْإِيجَابَ ضِدُّهُ، فَلَيْسَتْ فِي صَرْفِهِ إلَى أَحَدِ الضِّدَّيْنِ وَهُوَ الْإِيجَابُ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ وَهُوَ الْإِبَاحَةُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ ارْتِفَاعَ الْحَظْرِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِفِعْلِ ضِدِّهِ عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَقْتَضِيهِ زَوَالُ الْحَظْرِ بَقَاءَ الشَّيْءِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلِ الْإِحْرَامِ، فَإِنْ شَاءَ حَلَقَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ زَوَالَ حَظْرِ الْبَيْعِ بِفِعْلِ الْجُمُعَةِ وَزَوَالَ حَظْرِ الصَّيْدِ بِالْإِحْلَالِ لَمْ يَقْتَضِ إيجَابَ الْبَيْعِ وَلَا الِاصْطِيَادَ وَإِنَّمَا اقْتَضَى إبَاحَتُهُمَا ؟ وَيُحْتَجُّ لِأَبِي يُوسُفَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿ رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ ﴾ ثَلَاثًا، وَدَعَا لِلْمُقَصِّرِينَ مَرَّةً، وَذَلِكَ فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ عِنْدَ الْإِحْصَارِ ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ نُسُكٌ، وَإِذَا كَانَ نُسُكًا وَجَبَ فِعْلُهُ كَمَا يَجِبُ عِنْدَ قَضَاءِ الْمَنَاسِكِ لِغَيْرِ الْمُحْصَرِ.
وَالْجَوَابُ : أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَدَّ عَلَيْهِمْ الْحَلْقُ وَالْإِحْلَالُ قَبْلَ الطَّوَافِ


الصفحة التالية
Icon