بَابُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى :﴿ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ﴾ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنَاسِكَ الْحَجِّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَلَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ مِنْ فُرُوضِهِ، فَلَمَّا قَالَ فِي سِيَاقِ الْخِطَابِ :﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾ أَبَانَ بِذَلِكَ عَنْ فَرْضِ الْوُقُوفِ وَلُزُومِهِ وَذَلِكَ لِأَنَّ أَمْرَهُ بِالْإِفَاضَةِ مُقْتَضٍ لِلْوُجُوبِ، وَلَا تَكُونُ الْإِفَاضَةُ فَرْضًا إلَّا وَالْكَوْنُ بِهَا فَرْضًا حَتَّى يُفِيضَ مِنْهَا ؛ إذْ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْإِفَاضَةِ إلَّا بِكَوْنِهِ قَبْلهَا هُنَاكَ.
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ :﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾ فَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِ : أَنَّهُ أَرَادَ الْإِفَاضَةَ مِنْ عَرَفَةَ، قَالُوا : وَذَلِكَ ؛ { لِأَنَّ قُرَيْشًا وَمَنْ دَانَ دِينَهَا يُقَالُ لَهُمْ الْحُمْسُ كَانُوا يَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَيَقِفُ سَائِرُ الْعَرَبِ بِعَرَفَاتٍ، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَامُ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ :﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا وَمَنْ دَانَ دِينَهَا أَنْ يَأْتُوا عَرَفَاتٍ فَيَقِفُوا بِهَا مَعَ النَّاسِ وَيُفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ }.
وَحُكِيَ عَنْ الضَّحَّاكِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْوُقُوفَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَأَنْ يُفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقِيلَ : إنَّهُ إنَّمَا قَالَ :" النَّاسُ " وَأَرَادَ إبْرَاهِيمَ وَحْدَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ ﴾ وَكَانَ رَجُلًا وَاحِدًا.
وَلِأَنَّ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا كَانَ الْإِمَامَ الْمُقْتَدَى بِهِ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى أُمَّةً كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمَّةِ الَّتِي تَتَّبِعُ سُنَّتَهُ، جَازَ إطْلَاقُ اسْمِ النَّاسِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُوَ وَحْدَهُ.
وَالتَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ لِاتِّفَاقِ