السَّلَفِ عَلَيْهِ، وَالضَّحَّاكُ لَا يُزَاحِمُ بِهِ هَؤُلَاءِ، فَهُوَ قَوْلٌ شَاذٌّ.
وَإِنَّمَا ذَكَرَ النَّاسَ هَاهُنَا وَأَمَرَ قُرَيْشًا بِالْإِفَاضَةِ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَعْظَمَ النَّاسِ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ وَمَنْ دَانَ دِينَهَا قَلِيلَةً بِالْإِضَافَةِ إلَيْهِمْ ؛ فَلِذَلِكَ قَالَ :﴿ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾ فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا قَالَ :﴿ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ ﴾ ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ :﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾ وَ " ثُمَّ " يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ لَا مَحَالَةَ، عَلِمْنَا أَنَّ هَذِهِ الْإِفَاضَةَ هِيَ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَلَيْسَ بَعْدَهَا إفَاضَةٌ إلَّا مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ وَهِيَ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ، فَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى ذَلِكَ، أَوْلَى مِنْهُ عَلَى الْإِفَاضَةِ مِنْ عَرَفَةَ ؛ وَلِأَنَّ الْإِفَاضَةَ مِنْ عَرَفَةَ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا فَلَا وَجْهَ لِإِعَادَتِهَا.
قِيلَ لَهُ : إنَّ قَوْله تَعَالَى :﴿ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ﴾ عَائِدٌ إلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ، وَهُوَ الْخِطَابُ بِذِكْرِ الْحَجِّ وَتَعْلِيمِ مَنَاسِكِهِ وَأَفْعَالِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ :" يَا أَيُّهَا الْمَأْمُورُونَ بِالْحَجِّ مِنْ قُرَيْشٍ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ " فَيَكُونُ ذَلِكَ رَاجِعًا إلَى صِلَةِ خِطَابِ الْمَأْمُورِينَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ﴾، وَالْمَعْنَى : بَعْدَ مَا ذَكَرْنَا لَكُمْ أَخْبَرْنَا كَمْ أَنَّا آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ.
وَيَجُوز أَنْ يَكُونَ " ثُمَّ " بِمَعْنَى " الْوَاوِ " فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ : وَأَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ مَعْنَاهُ : وَكَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا، وَقَوْلُهُ :﴿ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ﴾ مَعْنَاهُ : وَاَللَّهُ شَهِيدٌ.
فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ سَائِغًا فِي اللُّغَةِ ثُمَّ رُوِيَ عَنْ السَّلَفِ مَا ذَكَرْنَا، لَمْ يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ.


الصفحة التالية
Icon