وقَوْله تَعَالَى :﴿ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا ﴾ يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : إلْحَاحًا وَإِدَامَةً لِلْمَسْأَلَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِلْحَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ هُوَ الِاسْتِقْصَاءُ فِيهَا وَإِدَامَتُهَا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَرَاهَةِ الْإِلْحَافِ فِي الْمَسْأَلَةِ.
فَإِنْ قِيلَ : فَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ :﴿ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا ﴾ فَنَفَى عَنْهُمْ الْإِلْحَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَمْ يَنْفِ عَنْهُمْ الْمَسْأَلَةَ رَأْسًا ؟ قِيلَ لَهُ : فِي فَحَوَى الْآيَةِ وَمَضْمُونِ الْمُخَاطَبَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْمَسْأَلَةِ رَأْسًا، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى :﴿ يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ ﴾ فَلَوْ كَانُوا أَظْهَرُوا الْمَسْأَلَةَ ثُمَّ إنْ لَمْ تَكُنْ إلْحَافًا لَمَا حَسِبَهُمْ أَحَدٌ أَغْنِيَاءَ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى :﴿ مِنْ التَّعَفُّفِ ﴾ لِأَنَّ التَّعَفُّفَ هُوَ الْقَنَاعَةُ وَتَرْكُ الْمَسْأَلَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى وَصْفِهِمْ بِتَرْكِ الْمَسْأَلَةِ أَصْلًا.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّعَفُّفَ هُوَ تَرْكُ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :﴿ مَنْ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّهُ وَمَنْ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللَّهُ ﴾.
وَإِذَا ثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ دَلَالَةِ الْآيِ أَنَّ ثِيَابَ الْكِسْوَةِ لَا تَمْنَعُ أَخْذَ الزَّكَاةِ وَإِنْ كَانَتْ سِرِّيَّةً وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْمَسْكَنِ وَالْأَثَاثِ وَالْفَرَسِ وَالْخَادِمِ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، فَإِذَا كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ حَاجَةً مَاسَّةً فَهُوَ غَيْرُ غَنِيٍّ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْغِنَى هُوَ مَا فَضَلَ عَنْ مِقْدَارِ الْحَاجَةِ.
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي مِقْدَارِ مَا يَصِيرُ بِهِ غَنِيًّا، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ :( إذَا فَضَلَ عَنْ مَسْكَنِهِ وَكِسْوَتِهِ وَأَثَاثِهِ وَخَادِمِهِ وَفَرَسِهِ مَا يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ لَمْ تَحِلَّ لَهُ الزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ حَلَّتْ لَهُ الزَّكَاةُ ).
وَقَالَ مَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ :( يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ مَنْ لَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا