الدِّينِ وَالْحَوَادِثِ الَّتِي لَا تَوْقِيفَ فِيهَا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَفِي أُمُورِ الدُّنْيَا أَيْضًا مِمَّا طَرِيقُهُ الرَّأْيُ وَغَالِبُ الظَّنِّ ؛ وَقَدْ شَاوَرَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ فِي الْأُسَارَى وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا شَاوَرَهُمْ فَأَظْهَرُوا آرَاءَهُمْ ارْتَأَى مَعَهُمْ وَعَمِلَ بِمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ ضُرُوبٌ مِنْ الْفَوَائِدِ : أَحَدُهَا : إعْلَامُ النَّاسِ أَنَّ مَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنْ الْحَوَادِثِ فَسَبِيلُ اسْتِدْرَاكِ حُكْمِهِ الِاجْتِهَادُ وَغَالِبُ الظَّنِّ.
وَالثَّانِي : إشْعَارُهُمْ بِمَنْزِلَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَنَّهُمْ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ وَجَائِزٌ اتِّبَاعُ آرَائِهِمْ ؛ إذْ رَفَعَهُمْ اللَّهُ إلَى الْمَنْزِلَةِ الَّتِي يُشَاوِرُهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَرْضَى اجْتِهَادَهُمْ وَتَحَرِّيَهُمْ لِمُوَافَقَةِ النُّصُوصِ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالثَّالِثُ : أَنَّ بَاطِنَ ضَمَائِرِهِمْ مَرْضِيٌّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِمُشَاوَرَتِهِمْ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى يَقِينِهِمْ وَصِحَّةِ إيمَانِهِمْ وَعَلَى مَنْزِلَتِهِمْ مَعَ ذَلِكَ مِنْ الْعِلْمِ وَعَلَى تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي لَا نُصُوصَ فِيهَا لِتَقْتَدِي بِهِ الْأُمَّةُ بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِثْلِهِ.
وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ بِالْمُشَاوَرَةِ عَلَى جِهَةِ تَطْيِيبِ نُفُوسِهِمْ وَرَفْعِ أَقْدَارِهِمْ وَلِتَقْتَدِيَ الْأُمَّةُ بِهِ فِي مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمْ أَنَّهُمْ إذَا اسْتَفْرَغُوا مَجْهُودَهُمْ فِي اسْتِنْبَاطِ مَا شُووِرُوا فِيهِ وَصَوَابِ الرَّأْيِ فِيمَا سُئِلُوا عَنْهُ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْمُولًا عَلَيْهِ وَلَا مُتَلَقَّى مِنْهُ بِالْقَبُولِ بِوَجْهٍ، لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ تَطْيِيبُ نُفُوسِهِمْ وَلَا رَفْعٌ لِأَقْدَارِهِمْ بَلْ فِيهِ إيحَاشُهُمْ فِي إعْلَامِهِمْ بِأَنَّ آرَاءَهُمْ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَلَا مَعْمُولٌ عَلَيْهَا.
فَهَذَا تَأْوِيلٌ سَاقِطٌ لَا مَعْنَى لَهُ، فَكَيْفَ


الصفحة التالية
Icon