إلَى آرَاءِ أُولِي الْأَمْرِ وَاجْتِهَادِهِمْ فَقَدْ ثَبَتَ وُجُوبُ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ مِنْ تَدْبِيرِ الْحُرُوبِ وَمَكَايِدِ الْعَدُوِّ وَقِتَالِ الْكُفَّارِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى النَّظَائِرِ مِنْ سَائِرِ الْحَوَادِثِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، إذَا كَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ الْمَانِعُ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِنْبَاطِ فِي مِثْلِهِ كَمَنْ أَبَاحَ الِاسْتِنْبَاطَ فِي الْبُيُوعِ خَاصَّةً وَمَنَعَهُ فِي الْمُنَاكَحَاتِ أَوْ أَبَاحَهُ فِي الصَّلَاةِ وَمَنَعَهُ فِي الْمَنَاسِكِ، وَهَذَا خَلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ.
فَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ الِاسْتِنْبَاطُ مَقْصُورًا عَلَى الْقِيَاسِ وَاجْتِهَادِ الرَّأْيِ دُونَ الِاسْتِدْلَالِ بِالدَّلِيلِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ فِي اللُّغَةِ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا.
قِيلَ لَهُ : الدَّلِيلُ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ فِي اللُّغَةِ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا لَا يَقَعُ بَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيهِ تَنَازُعٌ ؛ إذْ كَانَ أَمْرًا مَعْقُولًا فِي اللَّفْظِ، فَهَذَا لَيْسَ بِاسْتِنْبَاطٍ بَلْ هُوَ فِي مَفْهُومِ الْخِطَابِ، وَذَلِكَ عِنْدَنَا نَحْوَ قَوْله تَعَالَى :﴿ فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ﴾ أَنَّهُ دَلَالَةٌ عَلَى النَّهْيِ عَنْ الضَّرْبِ وَالشَّتْمِ وَالْقَتْلِ وَنَحْوِهِ، وَهَذَا لَا يَقَعُ فِي مِثْلِهِ خِلَافٌ ؛ فَإِنْ أَرَدْت بِالدَّلِيلِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا هَذَا الضَّرْبَ مِنْ دَلَائِلِ الْخِطَابِ فَإِنَّ هَذَا لَا تَنَازُعَ فِيهِ وَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى اسْتِنْبَاطٍ.
وَإِنْ أَرَدْت بِالدَّلِيلِ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ فَيَكُونُ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ مَا عَدَاهُ فَحُكْمُهُ بِخِلَافِهِ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِدَلِيلٍ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ؛ وَلَوْ كَانَ هَذَا ضَرْبًا مِنْ الدَّلِيلِ لَمَا أَغْفَلَتْهُ الصَّحَابَةُ وَلَاسْتَدَلَّتْ بِهِ عَلَى أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ، وَلَوْ فَعَلُوا هَذَا لَاسْتَفَاضَ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَظَهَرَ، فَلَمَّا لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْهُمْ دَلَّ عَلَى سُقُوطِ قَوْلِك.
وَأَيْضًا لَوْ كَانَ هَذَا ضَرْبًا مِنْ الِاسْتِدْلَالِ لَمْ


الصفحة التالية
Icon