يَمْنَعْ ذَلِكَ إيجَابُ الِاسْتِنْبَاطِ فِيمَا لَا طَرِيقَ إلَيْهِ إلَّا مِنْ جِهَةِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ ؛ إذْ لَيْسَ يُوجَدُ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ هَذَا الضَّرْبُ مِنْ الدَّلَالَةِ، وَقَدْ أَمَرْنَا بِاسْتِنْبَاطِ سَائِرِ مَا لَا نَصَّ فِيهِ فَمَا لَمْ نَجِدْ فِيهِ مِنْ الْحَوَادِثِ هَذَا الضَّرْبَ مِنْ الدَّلِيلِ، فَعَلَيْنَا اسْتِنْبَاطُ حُكْمِهِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ ؛ إذْ لَا سَبِيلَ لَنَا إلَيْهِ إلَّا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ.
فَإِنْ قِيلَ : لِمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ وَلَمْ يَكُنْ دَلِيلُ الْقِيَاسِ مُفْضِيًا بِنَا إلَى الْعِلْمِ بِمَدْلُولِهِ ؛ إذْ كَانَ الْقَائِسُ يُجَوِّزُ عَلَى نَفْسِهِ الْخَطَأَ وَلَا يُجَوِّزُ الْقَطْعَ بِأَنَّ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ قِيَاسُهُ وَاجْتِهَادُهُ هُوَ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الِاسْتِنْبَاطَ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ.
قِيلَ لَهُ : قَوْلُهُ :" إنَّ الْقَائِسَ لَا يَقْطَعُ بِأَنَّ قِيَاسَهُ هُوَ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ " خَطَأٌ لَا نَقُولُ بِهِ وَذَلِكَ أَنَّ مَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادُ فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْطَعَ بِأَنَّ مَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ هُوَ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ، وَهَذَا عِنْدَنَا عِلْمٌ مِنْهُ بِأَنَّ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَاسْتِنْبَاطُهُ حُكْمُ الْحَوَادِثِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِصِحَّةِ مُوجِبِهِ وَمَا أَدَّاهُ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ أَيْضًا تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ الْقَائِلِينَ بِالْإِمَامَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ الدِّينِ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ لَعَرَفَهُ الْإِمَامُ وَلَزَالَ مَوْضِعُ الِاسْتِنْبَاطِ وَسَقَطَ الرَّدُّ إلَى أُولِي الْأَمْرِ، بَلْ كَانَ الْوَاجِبُ الرَّدُّ إلَى الْإِمَامِ الَّذِي يَعْرِفُ صِحَّةَ ذَلِكَ مِنْ بَاطِلِهِ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ.


الصفحة التالية
Icon