قِيلَ لَهُ : لَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ لِأَجْلِ عَمَلِهِ إذَا كَانَ غَنِيًّا، وَقَدْ حَظَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ نَصُّ التَّنْزِيلِ فِي قَوْله تَعَالَى :﴿ وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ﴾ وَلَا خِلَافَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الْقُضَاةَ وَالْعُمَّالَ جَائِزٌ لَهُمْ أَخْذُ أَرْزَاقِهِمْ مَعَ الْغِنَى ؛ فَلَوْ كَانَ مَا أَخَذَهُ وَلِيُّ الْيَتِيمِ مِنْ مَالِهِ يَجْرِي مَجْرَى رِزْقِ الْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ جَازَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فِي حَالِ الْغِنَى، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ وَلِيَّ الْيَتِيمِ لَا يَسْتَحِقُّ رِزْقًا مِنْ مَالِهِ ؛ وَلَا خِلَافَ أَيْضًا أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ شَيْئًا وَإِلَيْهِ الْقِيَامُ بِأَمْرِ الْأَيْتَامِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ سَائِرَ النَّاسِ مِمَّنْ لَهُمْ الْوِلَايَةُ عَلَى الْأَيْتَامِ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِمْ لَا قَرْضًا وَلَا غَيْرَهُ كَمَا لَا يَأْخُذُهُ الْقَاضِي فَقِيرًا كَانَ أَوْ غَنِيًّا.
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ رِزْقِ الْقَاضِي وَالْعَامِلِ وَبَيْنَ أَخْذِ وَلِيِّ الْيَتِيمِ مِنْ مَالِهِ مِقْدَارَ الْكِفَايَةِ وَبَيْنَ أَخْذِ الْأُجْرَةِ ؟ قِيلَ لَهُ : إنَّ الرِّزْقَ لَيْسَ بِأُجْرَةٍ لِشَيْءٍ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُ وَلِكُلِّ مَنْ قَامَ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْفُقَهَاءَ لَهُمْ أَخْذُ الْأَرْزَاقِ وَلَمْ يَعْمَلُوا شَيْئًا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ ؟ لِأَنَّ اشْتِغَالَهُمْ بِالْفُتْيَا وَتَفْقِيهِ النَّاسِ فَرْضٌ، وَلَا جَائِزَ لِأَحَدٍ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى الْفُرُوضِ، وَالْمُقَاتَلَةِ وَذُرِّيَّتُهَا يَأْخُذُونَ الْأَرْزَاقَ وَلَيْسَتْ بِأُجْرَةٍ، وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ ؛ وَقَدْ كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمٌ مِنْ الْخُمْسِ وَالْفَيْءِ وَسَهْمٌ مِنْ الْغَنِيمَةِ إذَا حَضَرَ الْقِتَالَ، وَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَأْخُذُ الْأَجْرَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يَقُومُ بِهِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ


الصفحة التالية
Icon