آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا } لَمْ يُفَرِّقْ فِيهِ بَيْنَ الزِّنْدِيقِ وَغَيْرِهِ، فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي قَبُولَ إسْلَامِهِ.
فَإِنْ قِيلَ : قَوْله تَعَالَى :﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى زَوَالِ الْقَتْلِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ هُوَ مَغْفُورٌ لَهُ ذُنُوبُهُ وَيَجِبُ مَعَ ذَلِكَ قَتْلُهُ كَمَا يُقْتَلُ الزَّانِي الْمُحْصَنُ وَإِنْ كَانَ تَائِبًا وَيُقْتَلُ قَاتِلُ النَّفْسِ مَعَ التَّوْبَةِ.
قِيلَ لَهُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ يَقْتَضِي غُفْرَانَ ذُنُوبِهِ وَقَبُولَ تَوْبَتِهِ ؛ لِأَنَّ تَوْبَتَهُ لَوْ لَمْ تَكُنْ مَقْبُولَةً لَمَا كَانَتْ ذُنُوبُهُ مَغْفُورَةً، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ اسْتِتَابَتِهِ وَقَبُولِهَا مِنْهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ قَتْلَ الْكَافِرِ إنَّمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ بِإِقَامَتِهِ عَلَى الْكُفْرِ، فَإِذَا انْتَقَلَ عَنْهُ إلَى الْإِيمَانِ فَقَدْ زَالَ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ وَجَبَ قَتْلُهُ وَعَادَ إلَى حَظْرِ دَمِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ ظَاهِرًا مَتَى أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ حُقِنَ دَمُهُ ؟ كَذَلِكَ الزِّنْدِيقُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمُرْتَدِّ الَّذِي لَحِقَ بِمَكَّةَ وَكَتَبَ إلَى قَوْمِهِ : سَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ :﴿ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ ﴾ إلَى قَوْله تَعَالَى :﴿ إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا ﴾ فَكَتَبُوا بِهَا إلَيْهِ، فَرَجَعَ فَأَسْلَمَ ؛ فَحَكَمَ لَهُ بِالتَّوْبَةِ بِمَا ظَهَرَ مِنْ قَوْلِهِ، فَوَجَبَ اسْتِعْمَالُ ذَلِكَ وَالْحُكْمُ لَهُ بِمَا يَظْهَرُ مِنْهُ دُونَ مَا فِي قَلْبِهِ.
وَقَوْلُهُ مَنْ قَالَ : إنِّي لَا أَعْرِفُ تَوْبَتَهُ إذَا كَفَرَ سِرًّا، فَإِنَّا لَا نُؤَاخَذُ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ اعْتِقَادِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا نَصِلُ إلَيْهِ، وَقَدْ حَظَرَ اللَّهُ عَلَيْنَا الْحُكْمَ بِالظَّنِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :{ اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إنَّ