فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَغَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى الِاسْتِثْنَاءِ فِي الشَّهَادَةِ وَلَا فِي الْحُكْمِ بِالتَّفْسِيقِ.
وَدَلِيلٌ آخَرُ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِنَا، وَهُوَ أَنَّا قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تُسْقِطُ الْحَدَّ، وَلَمْ يَرْجِعْ الِاسْتِثْنَاءُ إلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بُطْلَانُ الشَّهَادَةِ مِثْلَهُ لِأَنَّهُمَا جَمِيعًا أَمْرَانِ قَدْ تَعَلَّقَا بِالْقَذْفِ، فَمِنْ حَيْثُ لَمْ يَرْجِعْ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْحَدِّ وَجَبَ أَنْ لَا يَرْجِعَ إلَى الشَّهَادَةِ، وَأَمَّا التَّفْسِيقُ فَهُوَ خَبَرٌ لَيْسَ بِأَمْرٍ فَلَا يَلْزَمُ عَلَى مَا وَصَفْنَا.
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالْحَدِّ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ فَكَذَلِكَ بُطْلَانُ الشَّهَادَةِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّهَادَاتِ إنَّمَا هِيَ حَقٌّ لِلْمَشْهُودِ لَهُ وَبِمُطَالَبَتِهِ يَصِحُّ أَدَاؤُهَا وَإِقَامَتُهَا كَمَا تَصِحُّ إقَامَةُ حَدِّ الْقَذْفِ بِمُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ ؟ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَا سَوَاءً فِي أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَرْفَعُهُمَا، وَأَمَّا لُزُومُ سِمَةِ الْفِسْقِ فَلَا حَقَّ فِيهِ لِأَحَدٍ فَكَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعًا إلَيْهِ وَمَقْصُورًا عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ التَّائِبُ مِنْ الْكُفْرِ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ فَالتَّائِبُ مِنْ الْقَذْفِ أَحْرَى قِيلَ لَهُ : التَّائِبُ مِنْ الْكُفْرِ يَزُولُ عَنْهُ الْقَتْلُ وَلَا يَزُولُ عَنْ التَّائِبِ مِنْ الْقَذْفِ حَدُّ الْقَذْفِ، فَكَمَا جَازَ أَنْ تُزِيلَ التَّوْبَةُ مِنْ الْكُفْرِ الْقَتْلَ عَنْ الْكَافِرِ جَازَ أَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُ وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ التَّائِبُ مِنْ الْقَذْفِ لِأَنَّ تَوْبَتَهُ لَا تُزِيلُ الْجَلْدَ عَنْهُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ عُقُوبَاتِ الدُّنْيَا غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ عَلَى مَقَادِيرِ الْأَجْرَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاذِفَ بِالْكُفْرِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَالْقَاذِفُ بِالزِّنَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ؟ فَغُلِّظَ أَمْرُ الْقَذْفِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِمَا لَمْ يُغَلَّظْ بِهِ أَمْرُ الْقَذْفِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَتْ عُقُوبَةُ الْكُفْرِ فِي الْآخِرَةِ أَعْظَمَ.
فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا تَابَ وَأَصْلَحَ فَهُوَ عَدْلٌ


الصفحة التالية
Icon