ونهل من علمه ما شاء الله له ان ينهل، فكان من انجب تلاميذ ه واوعاهم، وافضلهم واذكاهم، كما تخرج على الشيخ سراج الدين البلقينى، والحافظ مغلطاى، وغيرهم من شيوخ مصر وعلمائها.
ثم ترامت إليه شهرة الشيخ شهاب الدين الاذرعى بحلب، والحافظ بن كثير بدمشق فشد اليهما الرحال، قصد الى حلب اولا حيث اخذ عن الاذرعى الفقه والاصول، ثم عمد الى دمشق حيث تلقى على ابن كثير الحديث، ثم عاد الى القاهرة وقد جمع اشتات العلوم، واحاط بالاصول والفروع، وعرف الغامض والواضح، ووعى الغريب والنادر، واستقصى الشإذ والمقيس، الى ذكاء وفطنة، وثقافة والمعية، فاهله كل ذلك للفتيا والتدريس، والتوفر على الجمع والتصنيف، واجتمع له من المولفات في عمره القصير ما لم يجتمع لغيره من افذاذ الرجال، وان كان هذا الفضل لم يعرفه الناس الا بعد وفاته، وحين توارت شمس حياته.
وكان رضى الخلق، محمود الخصال، عذب الشمائل، متواضعا رقيقا، يلبس الخلق من الثياب، ويرضى بالقليل من الزاد، لا يشغله عن العلم شى من مطالب الدنيا، اوشوون الحياة.
قال ابن حجر: (وكان مقطعا في منزله لا يتردد الى احد الا الى سوق الكتب، وإذا حضر إليها لا يشترى شيئا، وانما يطالع في حانوت الكتبى طول نهاره ومعه ظهور اوراق يعلق فيها ما يعجبه، ثم يرجع فينقله الى تصانيفه) (١) وحكى تلميذه شمس الدين البرماوى انه كان منقطعا الى الاشتغال بالعلم لا يشتغل عنه بشى، وله اقارب يكفونه امر دنياه (٢).
بهرت بلاغته العقول وظهرت فصاحته على كل مقول، وتظافر ايجازه واعجازه
وتظاهرت حقيقته ومجازه، وتقارن في الحسن مطالعه ومقاطعه، وحوت كل البيان جوامعه وبدائعه، قد احكم الحكيم صيغته ومبناه، وقسم لفظه ومعناه، الى ماينشط السامع، ويقرط المسامع، من تجنيس انيس، وتطبيق لبيق، وتشبيه نبيه، وتقسيم وسيم، وتفصيل اصيل، وتبليغ بليغ، وتصدير بالحسن جدير، وترديد ماله مزيد، الى غير ذلك مما اجرى (١) من الصياغة البديغة، والصناعة الرفيعة، فلاذان باقراطه حالية، والاذهان من اسماطه غير خالية، فهو من تناسب الفاظه، وتناسق اغراضه، قلادة ذات اتساق، ومن تبسم رهره وتنسم نشره، حديقه مبهجة للنفوس والاسماع والاحداق، كل كلمة منه لها من نفسها طرب، ومن ذاتها عجب، ومن طلعتها غرة، ومن بهجتها درة، لاحت عليه بهجة القدرة، ونزل (٢ ممن له الامر (٢، فله على كل كلام سلطان وامره، بهر تمكن فواصله، وحسن ارتباط اواخره واوائله، وبديع اسارته، وعجيب انتقالته، من قصص باهرة، الى مواعظ زاجرة، وامثال سائرة، وادلة على التوحيد ظاهرة، وامثال بالتنزيه والتحميد سائرة، ومواقع تعجب واعتبار، ومواطن تنزيه واستغفار، أن كان سياق الكلام ترجية بسط، وان كان تخويفا قبض، وان كان وعدا ابهج، وان كان وعيدا ازعج، وان كان دعوة حدب، وان كان زجرة ارعب، وان كان موعظة اقلق، وان كان ترغيبا شوق، هذا، وكم فيه من زوايا وفى زواياه من خبايا ويطمع الحبر في التقاضى فيكشف الخبر عن قضايا فسبحان من سلكه ينابيع في القلوب، وصرفه بابدع معنى واغرب أسلوب.


الصفحة التالية
Icon