وجملة الأمر أنا لا نوجب الفصاحة للفظة مقطوعة مرفوعة من الكلام الذي هي فيه، ولكنا نوجبها لها موصولة بغيرها، ومعلقاً معناها بمعنى ما يليها. فإذا قلنا في لفظة اشتعل من قوله تعالى: " واشتعل الرأس شيباً " : إنها في أعلى المرتبة من الفصاحة، لم نوجب تلك الفصاحة لها وحدها، ولكن موصولاً بها الرأس معرفاً بالألف واللام، ومقروناً إليها الشيب منكراً منصوباً.
هذا، وإنما يقع ذلك في الوهم لمن يقع له، أعني أن توجب الفصاحة للفظة وحدها فيما كان استعارة. فأما ما خلا من الاستعارة من الكلام الفصيح البليغ فلا يعرض توهم ذلك فيه لعاقل أصلاً. أفلا ترى أنه لا يقع في نفس من يعقل أدنى شيء إذا هو نظر إلى قوله عز وجل: " ويحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم ". وإلى إكبار الناس شأن هذه الآية في الفصاحة أن يضع يده على كلمة كلمة منها فيقول: إنها فصيحة؟ كيف وسبب الفصاحة فيها أمور لا يشك عاقل في أنها معنوية: أولها: أن كانت على فيها متعلقة بمحذوف في موضع المفعول الثاني. والثاني: أن كانت الجملة التي هي هم العدو بعدها عارية من حرف عطف. والثالث: التعريف في العدو، وأن لم يقل: هم عدو. ولو أنك علقت على، بظاهر، وأدخلت على الحملة التي هي هم العدو حرف عطف، وأسقطت الآلف واللام من العدو، فقلت: يحسبون كل صيحة واقعة عليهم وهم عدو، لرأيت الفصاحة قد ذهبت عنها بأسرها. ولو أنك أخطرت ببالك أن يكون عليهم متعلقاً بنفس الصيحة، ويكون حاله معها كحاله إذا قلت: صحت عليه، لأخرجته عن أن يكون كلاماً، فضلاً عن أن يكون فصيحاً. وهذا هو الفيصل لمن عقل.
ومن العجيب في هذا ما روي عن أمير المؤمنين علي رضوان الله عليه أنه قال: ما سمعت كلمة عربية من العرب إلا وسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وسمعته يقول: " مات حتف أنفه " وما سمعتها من عربي قبله. لا شبهة في أن وصف اللفظ بالعربي في مثل هذا يكون في معنى الوصف بأنه فصيح. وإذا كان الأمر كذلك فانظر هل يقع في وهم متوهم أن يكون رضي الله عنه قد جعلها عربية من أجل ألفاظها؟ وإذا نظرت لم تشك في ذلك.
واعلم أنك تجد هؤلاء الذين يشكون فيما قلناه تجري على ألسنتهم ألفاط وعبارات لا يصح لها معنى سوى توخي معاني النحو وأحكامه فيما بين معاني الكلم. ثم تراهم لا يعلمون ذلك. فمن ذلك ما يقوله الناس قاطبة من أن العاقل يرتب في نفسه ما يريد أن يتكلم به. وإذا رجعنا إلى أنفسنا لم نجد لذلك معنى سوى أنه يقصد إلى قولك ضرب فيجعله خبراً عن زيد، ويجعل الضرب الذي أخبر بوقوعه منه واقعاً على عمرو، ويجعل يوم الجمعة زمانه الذي وقع فيه، ويجعل التأديب غرضه الذي فعل الضرب من أجله فيقول: ضرب زيد عمراً يوم الجمعة تأديباً له. وهذا كما ترى هو توخي معاني النحو فيما بيبن معاني هذه الكلم. ولو أنك فرضت أن لا تتوخى في ضرب أن تجعله خبراً عن زيد، وفي عمرو أن تجعله مفعولاً به لضرب، وفي يوم الجمعة أن تجعله زماناً لهذا الضرب، وفي التأديب أن تجعله غرض زيد من فعل الضرب، ما تصور في عقل، ولا وقع في وهم أن تكون مرتباً لهذه الكلم. وإذ قد عرفت ذلك فهو العبرة في الكلام كله، فمن ظن ظناً يؤدي إلى خلافه ظن ما يخرج به عن المعقول.
ومن ذلك إثباتهم التعلق والاتصال فيما بين الكلم وصواحبها تارة ونفيهم لهما أخرى. ومعلوم علم الضرورة أن لن يتصور أن يكون للفظة تعلق بلفظة أخرى من غير أن تعتبر حال معنى هذه مع معنى تلك. ويراعى هناك أمر يصل إحداهما بأخرى، كمراعاة نبك جواباً للأمر في قوله: قفا نبك: وكيف بالشك في ذلك. ولو كانت الألفاظ يتعلق بعضها ببعض من حيث هي ألفاط، ومع اطراح النظر في معانيها لأدى ذلك إلى أن يكون الناس حين ضحكوا مما يصنعه المجان من قراء أنصاف الكتب ضحكوا عن جهالة، وأن يكون أبو تمام قد أخطأ حين قال:
عذلاً شبيهاً بالجنون كأنما | قرأت به الورهاء شطر كتاب |
هذا فن من الاستدلال لطيف على بطلان أن تكون الفصاحة صفة للفظ من حيث هو لفظ