لا تخلو الفصاحة من أن تكون صفة في اللفظ محسوسة تدرك بالسمع، أو تكون صفة فيه معقولة تعرف بالقلب. فمحال أن تكون صفة اللفظ محسوسة، لأنها لو كانت كذلك لكان ينبغي أن يستوي السامعون للفظ الفصيح في العلم بكونه فصيحاً. وإذا بطل أن تكون محسوسة، وجب الحكم ضرورة بأنها صفة معقولة. وإذا وجب الحكم بكونها صفة معقولة فإنا لا نعرف للفظ صفة يكون طريق معرفتها العقل دون الحس إلا دلالته على معناه. وإذا كان كذلك لزم منه العلم بأن وصفنا اللفظ بالفصاحة وصف له من جهة معناه لا من جهة نفسه. وهذا ما لا يبقى لعاقل معه عذر في الشك، والله الموفق للصواب.
أن الفصاحة في الكلمة لا في حروفها
وبيان آخر، وهو أن القارىء إذا قرأ قوله تعالى: " واشتعل الرأس شيباً " فإنه لا يجد الفصاحة التي يجدها إلا من بعد أن ينتهي الكلام إلى آخره. فلو كانت الفصاحة صفة للفظ اشتعل لكان ينبغي أن يحسها القارىء فهي حال نطقه به، فمحال أن تكون للشيء صفة ثم لا يصح العلم بتلك الصفة إلا من بعد عدمه. ومن ذا رأى صفة يعرى موصوفها عنها في حال وجوده، حتى إذا عدم صارت موجودة فيه؟ وهل سمع السامعون في قديم الدهر وحديثه بصفة، شرط حصولها لموصوفها أن يعدم الموصوف. فإن قالوا إن الفصاحة التي ادعيناها للفظ اشتعل تكون فيه في حال نطقنا به، إلا أنا نعلم في تلك الحال أنها فيه، فإذا بلغنا آخر الكلام علمنا حينئذ أنها كانت فيه حين نطقنا. قيل: هذا فن آخر من العجب، وهو أن تكون هاهنا صفة موجودة في شيء، ثم لا يكون في الإمكان، ولا يسع في الجواز أن نعلم وجود تلك الصفة في ذلك الشيء إلا بعد أن يعدم. ويكون العلم بها وبكونها فيه محجوباً عنا حتى يعدم، فإذا عدم علمنا أنها كانت فيه حين كان.
ثم إنه لا شبهة في أن هذه الفصاحة التي يدعونها للفظ هي مدعاة لمجموع الكلمة دون آحاد حروفها، إذ ليس يبلغ بهم تهافت الرأي إلى أن يدعوا لكل واحد من حروف اشتعل فصاحة، فيجعلوا الشين على حدته فصيحاً، وكذلك التاء والعين واللام. وإذا كانت الفصاحة مدعاة لمجموع الكلمة لم يتصور حصولها لها إلا من بعد أن تعدم كلها وينقضي أمر النطق بها. ذلك لأنه لا يتصور أن تدخل الحروف بجملتها في النطق دفعة واحدة حتى تجعل الفصاحة موجودة فيها في حال وجودها، وما بعد هذا إلا أن نسأل الله تعالى العصمة والتوفيق. فقد بلغ الأمر في الشناعة إلى حد إذا انتبه العاقل لف رأسه حياء من العقل حين يراه قد قال قولاً هذا مؤداه، وسلك مسلكاً إلى هذا مفضاه. وما مثل من يزعم أن الفصاحة صفة اللفظ من حيث هو لفط ونطق لسان، ثم يزعم أنه يدعيها لمجموع حروفه دون آحادها إلا مثل من يزعم أن هاهنا غزلاً إذا نسج منه ثوب كان أحمر، وإذا فرق ونظر إليه خيطاً خيطاً لم تكن فيه حمرة أصلاً.
ومن طريف أمرهم أنك ترى كافتهم لا ينكرون أن اللفظ المستعار إذا كان فصيحاً كانت فصاحته تلك من أجل استعارته ومن أجل لطف وغرابة كانا فيها. وتراهم مع ذلك لا يشكون في أن الاستعارة لا تحدث في حروف اللفظ صفة، ولا تغير أجراسها عما تكون عليه إذا لم يكن مستعاراً، وكان متروكاً على حقيقته. وأن التأثير من الاستعارة إنما يكون في المعنى كيف وهم يعتقدون أن اللفظ إذا استعير لشيء نقل عن معناه الذي وضع له بالكلية. وإذا كان الأمر كذلك فلولا إهمالهم أنفسهم، وتركهم النظر لقد كان يكون في هذا ما يوقظهم من غفلتهم، ويكشف الغطاء عن أعينهم.
علاقة الفكر بمعاني النحو
ومما ينبغي أن يعلمه الإنسان، ويجعله على ذكر أنه لا يتصور أن يتعلق الفكر بمعاني الكلم أفراداً ومجردة من معاني النحو فلا يقوم في وهم، ولا يصح في عقل أن يتفكر متفكر في معنى فعل من غير أن يريد إعماله في اسم. ولا أن يتفكر في معنى اسم من غير أن يريد إعمال فعل فيه، وجعله فاعلاً له أو مفعولاً. أو يريد منه حكماً سوى ذلك كل الأحكام، مثل أن يريد جعله مبتدأ أو خبراً أو صفة أو حالاً أو ما شاكل ذلك. وإن أردت أن ترى ذلك عياناً فاعمد إلى أي كلام شئت، وأزل أجزاءه عن مواضعها، وضعها وضعاً يمتنع معه دخول شيء من معاني النحو فيها فقل في:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل


الصفحة التالية
Icon