واعلم أن الذي هو آفة هؤلاء الذين لهجوا بالأباطيل في أمر اللفظ أنهم قوم قد أسلموا أنفسهم إلى التخيل، وألقوا مقادتهم إلى الأوهام، حتى عدلت بهم عن الصواب كل معدل، ودخلت بهم من فحش الغلط في كل مدخل، وتعسفت بهم في كل مجهل، وجعلتهم يرتكبون في نصرة رأيهم الفاسد القول بكل محال، ويقتحمون في كل جهالة. حتى إنك لو قلت لهم: إنه لا يتأتى للناظم نظمه إلا بالفكر والروية، فإذا جعلتم النظم في الألفاظ لزمكم من ذلك أن تجعلوا فكر الإنسان إذا هو فكر في نظم الكلام فكراً في الألفاظ التي يريد أن ينطق بها دون المعاني، لم يبالوا أن يرتكبوا ذلك، وأن يتعلقوا فيه بما في العادة ومجرى الجبلة من أن الإنسان يخيل إليه إذا هو فكر، أنه كان ينطق في نفسه بالألفاظ التي يفكر في معانيها، حتى يرى أن يسمعها سماعه لها حين يخرجها من فيه، وحين يجري بها اللسان. وهذا تجاهل لأن سبيل ذلك سبيل إنسان يتخيل دائماً في الشيء قد رآه وشاهده أنه كأنه يراه وينظر إليه. وأن مثاله نصب عينيه. فكما لا يوجب هذا أن يكون رائياً له، وأن يكون الشيء موجوداً في نفسه، كذلك لا يكون تخيله أنه كان ينطق بالألفاظ موجباً أن يكون ناطقاً بها. وأن تكون موجودة في نفسه حتى يجعل ذلك سبباً إلى جعل الفكر فيها. ثم إنا نعلم أنه ينطق بالألفاظ في نفسه، وأنه يجدها فيها على الحقيقة. فمن أين لنا أنه إذا فكر كان الفكر منه فيها؟ أم ماذا يروم ليت شعري بذلك الفكر؟ ومعلوم أن الفكر من الإنسان يكون في أن يخبر عن شيء بشيء، أو يصف شيئاً بشيء أو يضيف شيئاً إلى شيء، أو يشرك شيئاً في حكم شيء، أو يخرج شيئاً من حكم قد سبق منه لشيء، أو يجعل وجود شيء شرطاً في وجود شيء، وعلى هذا السبيل. وهذا كله فكر في أمور معلومة معقولة زائدة على اللفظ.
واذا كان هذا كذلك لم يخل هذا الذي يجعل في الألفاظ فكراً من أحد أمرين: إما أن يخرج هذه المعاني من أن يكون لواضع الكلام فيها فكر، ويجعل الفكر كله في الألفاظ. وإما أن يجعل له فكراً في اللفظ مفرداً عن الفكرة في هذه المعاني، فإن ذهب إلى الأول لم يكلم، وإن ذهب إلى الثاني لزمه أن يجوز وقوع فكر من الأعجمي الذي لا يعرف معاني ألفاظ العربية أصلاً في الألفاظ، وذلك مما لا يخفى مكان الشنعة والفضيحة فيه.
وشبيه بهذا التوهم منهم أنك قد ترى أحدهم يعتبر حال السامع، فإذا رأى المعاني لا تترتب في نفسه إلا بترتب الألفاظ في سمعه ظن عند ذلك أن المعاني تبع للألفاظ، وأن الترتب فيها مكتسب من الألفاظ، ومن ترتبها في نطق المتكلم. وهذا ظن فاسد ممن يظنه، فإن الاعتبار ينبغي أن يكون بحال الواضع للكلام والمؤلف له. والواجب أن ينظر إلى حال المعاني معه لا مع السامع. وإذا نظرنا علمنا ضرورة أنه محال أن يكون الترتب فيها تبعاً لترتب الألفاظ ومكتسباً عنه، لأن ذلك يقتضي أن تكون الألفاظ سابقة للمعاني، وأن تقع في نفس الإنسان أولاً ثم تقع المعاني من بعدها وتالية لها، بالعكس مما يعلمه كل عاقل إذا هو لم يأخذ عن نفسه، ولم يضرب حجاب بينه وبين عقله. وليت شعري هل كانت الألفاظ إلا من أجل المعاني؟ وهل هي إلا خدم لها، ومصرفة على حكمها؟ أو ليست هي سمات لها؟ وأوضاعاً قد وضعت لتدل عليها؟ فكيف يتصور أن تسبق المعاني؟ وأن تتقمها في تصور النفس؟ إن جاز ذلك جاز أن تكون أسامي الاشياء قد وضعت قبل أن عرفت الأشياء، وقبل أن كانت. وما أدري ما أقول في شيء يجر الذاهبين إليه إلى أشباه هذا من فنون المحال، ورديء الأقوال! وهذا سؤال لهم من جنس آخر في النظم: قالوا: لو كان النظم يكون في معاني النحو لكان البدوي الذي لم يسمع بالنحو قط، ولم يعرف المبتدأ والخبر وشيئاً مما يذكرونه لا يتأتى له نظم كلام. وإنا لنراه يأتي في كلامه بنظم لا يحسنه المتقدم في علم النحو. قيل: هذه شبهة من جنس ما عرض للذين عابوا المتكلمين، فقالوا: إنا نعلم أن الصحابة رضي محله عنهم والعلماء في الصدر الأول لم يكونوا يعرفون الجوهر، والعرض، وصفة النفس، وصفة المعنى، وسائر العبارات التي وضعتموها. فإن كان لا تتم الدلالة على حدوث العالم والعلم بوحدانية الله إلا بمعرفة هذه الأشياء التي ابتدأتموها فينبغي لكم أن تدعوا أنكم قد علمتم في ذلك ما لم يعلموه، وأن منزلتكم في العلم أعلى من منازلهم.