وجوابنا هو مثل جواب المتكلمين، وهو أن الاعتبار بمعرفة مدلول العبارات لا بمعرفة العبارات، فإذا عرف البدوي الفرق بين أن يقول: جاءني زيد راكباً، وبين قوله: جاءني زيد راكب، لم يضره أن لا يعرف أنه إذا قال: راكباً كانت عبارة النحويين فيه أن يقولوا في راكب، إنه حال. وإذا قال: الراكب، إنه صفة جارية على زيد. وإذا عرف في قوله: زيد منطلق، أن زيداً مخبر عنه، ومنطلق خبر لم يضره أن لا يعلم أنا نسمي زيداً مبتدأ. وإذا عرف في قولنا: ضربته تأديباً له، أن المعنى في التأديب أنه غرضه من الضرب، وأن ضربه بتأدب لم يضره أن لا يعلم أنا نسمي التأديب مفعولاً له. ولو كان عدم العلم بهذه العبارات يمنعه العلم بما وضعناها له، وأردناه بها لكان ينبغي أن لا يكون له سبيل إلى بيان أغراضه، أن لا يفصل فيما يتكلم به بين نفي وإثبات، وبينما ا إذا كان استفهاماً، وبينه إذا كان معنى الذي، وإذا كان بمعنى المجازاة، لأنه لم يسمع عباراتنا في الفرق بين هذه المعاني.
أترى الاعرابي حين سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمداً رسول الله، بالنصب فأنكر وقال صنع ماذا، أنكر عن غير علم أن النصب يخرجه عن أن يكون خبراً، ويجعله والأول في حكم اسم واحد، وأنه إذا صار والأول في حكم اسم واحد احتيج إلى اسم آخر أو فعل حتى يكون كلاماً، وحتى يكون قد ذكر ما له فائدة. إن كان لم يعلم ذلك فلماذا قال: صنع ماذا. فطلب ما يجعله خبراً.
ويكفيك أنه يلزم على ما قالوه أن يكون امرؤ القيس حين قال:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
قاله وهو لا يعلم ما نعنيه بقولنا: إن قفا أمر، ونبك جواب الأمر، و لاذكرى مضاف إلى حبيب و منزل معطوف على الحبيب. وأن تكون هذه الألفاظ قد رتبت له من غير قصد منه إلى هذه المعاني. وذلك يوجب أن يكون قال: نبك بالجزم من غير أن يكو عرف معنى يوجب الجزم، وأتى به مؤخراً عن قفا من غير أن عرف لتأخيره موجباً سوى طلب الوزن. ومن أفضت به الحال إلى أمثال هذه الشناعات، ثم لم يرتدع ولم يتبين أنه علم خطأ، فليس إلا تركه والإعراض عنه.
ولولا أنا نحب أن لا ينبس أحد في معنى السؤال والاعتراض بحرف إلا أريناه الذي استهواه لكان ترك التشاغل بإيراد هذا وشبهه أولى. ذاك لأنا قد علمنا علم ضرورة أنا لو بقينا الدهر الأطول نصعد ونصوب ونبحث وننقب، نبتغي كلمة قد اتصلت بصاحبة لها، ولفظة قد انتظمت مع أختها، من غيرأن نتوخى فيما بينهما معنى من معاني النحو، طلبنا ممتنعاً، وثنينا مطايا الفكر ظلعاً. فإن كان هاهنا من يشك في ذلك، ويزعم أنه قد علم لاتصال الكلم بعضها ببعض، وانتظام الالفاظ بعضها مع بعض معاني غير معاني النحو فإنا نقول: هات فبين لنا تلك المعاني، وأرنا مكانها واهدنا لها، فلعلك قد أوتيت علماً قد حجب عنا، وفتح لك باب قد أغلق دوننا، من الوافر:

وذاك له إذا العنقاء صارت مرببة، وشب ابن الخصي
الفصاحة والتشبيه والاستعارة
قد أردت أن أعيد القول في شيء هو أصل الفساد، ومعظم الآفة، والذي صار حجازاً بين القوم وبين التامل. وأخذ بهم عن طريق النظر، وحال بينهم وبين أن يصغوا إلى ما يقال لهم، وأن يفتحوا للذي تبين أعينهم، وذلك قولهم: إن العقلاء قد اتفقوا على أنه يصح أن يعبر عن المعنى الواحد بلفظين، ثم يكون أحدهما فصيحاً والآخر غير فصيح. وذلك قالوا يقتضي أن يكون للفظ نصيب في المزية، لأنها لو كانت مقصورة على المعنى لكان محالاً أن يجعل لأحد اللفظين فضل على الآخر مع أن المعبر عنه واحد. وهذا شيء تراهم يعجبون به، ويكثرون ترداده مع أنهم يؤكدونه فيقولون: لولا أن الأمر كذلك لكان ينبغي أن لا يكون للبيت من الشعر فضل على تفسير المفسر له، لأنه إن كان اللفظ إنما يشرف من أجل معناه فإن لفظ المفسر يأتي على المعنى، ويؤديه لا محالة. إذ لو كان لا يؤديه لكان لا يكون تفسيراً له. ثم يقولون: وإذا لزم ذلك في تفسير البيت من الشعر لزم مثله في الآية من القرآن. وهم إذا انتهوا في الحجاج إلى هذا الموضع، ظنوا أنهم قد أتوا بما لا يجوز أن يسمع عليهم معه كلام، وأنه نقض ليس بعده إبرام. وربما أخرجهم الإعجاب به إلى الضحك والتعجب ممن يرى أن إلى الكلام عليه سبيلاً، وأن يستطيع أن يقيم على بطلان ما قالوه دليلاً.


الصفحة التالية
Icon