والجواب وبالله التوفيق أن يقال للمحتج بذلك: قولك: إنه يصح أن يعبر عن المعنى الواحد بلفظين يحتمل أمرين: أحدهما: أن تريد باللفظين كلمتين معناهما واحد في اللغة، مثل: الليث والأسد، ومثل: شحط وبعد، وأشباه ذلك مما وضع اللفظان فيه لمعنى.
والثاني: أن تريد كلامين. فإن أردت الأول خرجت من المسألة لأن كلامنا نحن في فصاحة تحدث من بعد التأليف دون الفصاحة التي توصف بها اللفظة مفردة، ومن غير أن يعتبر حالها مع غيرها. وإن أردت الثاني ولا بد لك من أن تريده فإن هاهنا أصلاً من عرفه عرف سقوط هذا الاعتراض، وهو أن يعلم أن سبيل المعاني سبيل أشكال الحلي كالخاتم والشنف والسوار. فكما أن من شأن هذه الأشكال أن يكون الواحد منها غفلاً ساذجاً لم يعمل صانعه فيه شيئاً أكثر من أن يأتي بما يقع عليه اسم الخاتم، إن كان خاتماً، والشنف إن كان شنفاً، وأن يكون مصنوعاً بديعاً قد أغرب صانعه فيه. كذلك سبيل المعاني أن ترة الواحد منها غفلاً ساذجاً عامياً موجوداً في كلام الناس كلهم. ثم تراه نفسه وقد عمد إليه البصير بشأن البلاغة وإحداث الصور في المعاني فيصنع فيه ما يصنع الحاذق حتى يغرب في الصنعة، ويدق في العمل، ويبدع في الصياغة. وشواهد ذلك حاضرة لك كيف شئت، وأمثلته نصب عينيك، من أين نظرت تنظر إلى قول الناس: الطبع لا يتغير، ولست تستطيع أن تخرج الإنسان عما جبل عليه، فترى معنى غفلاً عامياً معروفاً في كل جيل وأمة ثم تنظر إليه في قول المتنبي، من المتقارب:
يراد من القلب نسيانكم... وتأبى الطباع على الناقل
فتجده قد خرج في أحسن صورة، وتراه قد تحول جوهرة بعد أن كان خرزة، وصار أعجب شي بم بعد أن لم يكن شيئاً.
وإذ قد عرفت ذلك فإن العقلاء إلى هذا قصدوا حين قالوا: إنه يصح أن يعبر عن المعنى الواحد بلفظين، ثم يكون أحدهما فصيحاً والآخر غير فصيح، كأنهم قالوا: إنه يصب أن تكون هاهنا عبارتان، أصل المعنى فيهما واحد، ثم يكون لإحداهما في تحسين ذلك المعنى وتزيينه وإحداث خصوصية فيه تأثير لا يكون للأخرى.
واعلم أن المخالف لا يخلو من أن ينكر أن يكون للمعنى في إحدى العبارتين ومزية لا يكونان له في الأخرى، وأن تحدث فيه على الجملة صورة لم تكن أو يعرف ذلك فإن أنكر لم يكلم لأنه يؤديه إلى أن لا يجعل للمعنى في قوله: تأبى الطباع على الناقل مزية على الذي يعقل من قولهم: الطبع لا يتغير، ولا يستطيع أن يخرج الإنسان عما ل عليه، وأن لا يرى لقول أبي نواس، من السريع:
وليس لله بمستنكر... أن يجمع العالم في واحد
مزية على أن يقال: غير بديع في قدرة الله تعالى أن يجمع فضائل الخلق كلهم في رجل واحد. ومن أداه قول يقول إلى مثل هذا كان الكلام معه محالاً. وكنت إذا كلفته أن يعرف كمن يكلف أن يميز بحور الشعر بعضها من بعض، فيعرف المديد من الطويل: والبسيط من السريع من ليس له ذوق يقيم به الشعر من أصله، وإن اعترف بأن ذلك يكون، قلناه: أخبرنا عنك أتقول في قوله:
وتأبى الطباع على الناقل
إنه كاية في الفصاحة. فإذا قال: نعم. قيل له: أو كان كذلك عندك من أجل حروفه من أجل حسن ومزية حصلاً في المعنى. فإن قال: من أجل حروفه، دخل في الهذيان. وإن قال: من أجل حسن ومزية حصلاً في المعنى قيل له: فذاك ما أردناك عليه حين قلنا إن اللفظ يكون فصيحاً من أجل مزية تقع في معناه، لا من أجل جرسه وصداه.
واعلم أن ليس شيء أبين وأوضح وأحرى أن يكشف الشبهة عن متأمله في صحة ما من التشبيه فإنك تقول: زيد كالأسد، أو شبيه بالأسد. فتجد ذلك كله تشبيها غفلاً ساذجاً. ثم تقول: كأن زيداً الأسد. فيكون تشبيهاً أيضاً. إلا أنك ترى بينه وبين الأول بوناً بعيداً لأنك ترى له صورة خاصة، وتجدك قد فخمت المعنى، وزدت فيه بأن أفدت أنه من الشجاعة وشدة البطش، وأن قلبه قلب لا يخامره الذعر، ولا يدخله الروع، بحيث يتوهم الأسد بعينه. ثم تقول: لئن لقيته ليلقينك منه الأسد فتجده قد أفاد هذه المبالغة، ولكن في صورة أحسن، وصفة أخص، وذلك أنك تجعله في كأن يتوهم أنه الأسد، وتجعله هاهنا يرى منه الأسد على القطع، فيخرج الأمر على حد التوهم إلى حد اليقين. ثم إن إلى قوله، من الطويل:
أأن أرعشت كفا أبيك وأصبحت... يداك يدي ليث فإنك غاليه؟