وجدته قد بدا لك في صورة آنق وأحسن. ثم إن نظرت إلى قول أرطاة بن سهبة، من البسيط:
إن تلقني لا ترى غيري بناظرة... تنس السلاح وتعرف جبهة الأسد
وجدته قد فضل الجميع، ورأيته قد أخرج في صورة غير تلك الصور كلها.
واعلم أن من الباطل والمحال ما يعلم الإنسان بطلانه واستحالته بالرجوع إلى النفس، حتى لا يشك. ثم إنه إذا أراد بيان ما يجد في نفسه والدلالة عليه رأى المسلك إليه يغمض ويدق. وهذه الشبهة أعني قولهم: إنه لو كان يجوز أن يكون الأمر على خلاف ما قالوه من أن الفصاحة وصف للفظ من حيث هو لفط لكان ينبغي أن لا يكون للبيت من الشعر فضل على تفسير المفسر، إلى آخره من ذاك. وقد علقت لذلك بالنفوس وقويت فيها حتى إنك لا تلقي إلى أحد من المتعلقين بأمر اللفظ كلمة مما نحن فيه إلا كان هذا أول كلامه، وإلا عجب وقال: إن التفسير بيان للمفسر، فلا يجوز أن يبقى من معنى المفسر شيء، لا يؤديه التفسير، ولا يأتي عليه لأن في تجويز ذلك القول بالمحال وهو أن لا يزال يبقى من معنى المفسر شيء لا يكون إلى العلم به سبيل. وإذا كان الأمر كذلك ثبت أن الصحيح من أنه لا يجوز أن يكون للفظ المفسر فضل من حيث المعنى على لفظ التفسير. وإذا لم يجز أن يكون الفضل من حيث المعنى لم يبق إلا أن يكون من حيث اللفظ نفسه. فهذا جملة ما يمكنهم أن يقولوه في نصرة هذه الشبهة قد استقصيته لك. وإذ قد عرفته فاسمع الجواب، وإلى الله تعالى الرغبة في التوفيق للصواب: اعلم أن قولهم: إن التفسير يجب أن يكون كالمفسر، دعوى لا تصح لهم إلا من بعد أن ينكروا الذي بيناه من أن من شأن المعاني أن تختلف بها الصور، ويدفعوه أصلاً حتى يدعوا أنه لا فرق بين الكناية والتصريح. وأن حال المعنى مع الاستعارة كحاله مع ترك الاستعارة. وحتى يطلبوا ما أطبق عليه العقلاء من أن المجاز يكون أبداً أبلغ من الحقيقة، فيزعموا أن قولنا: طويل النجاد وطويل القامة واحد، وأن حال المعنى في بيت ابن هرمة، من المنسرح:
.................. ولا... أبتاع إلا قريبة الأجل
كحاله في قولك: أنا مضياف. وأنك إذا قلت: رأيت أسداً، لم يكن الأمر أقوى من أن تقول: رأيت رجلاً هو من الشجاعة بحيث لا ينقص عن الأسد. ولم تكن قد زدت في المعنى بأن ادعيت له أنه أسد بالحقيقة، ولا بالغت فيه. وحتى يزعموا أنه لا فضل ولا مزية لقوله: ألقيت حبله على غاربه. على قولك في تفسيره: خليته وما يريد، وتركته يفعل ما يشاء. وحتى لا يجعلوا للمعنى في قوله تعالى: " وأشربوا في قلوبهم العجل " مزية على أن يقال: اشتدت محبتهم للعجل، وغلبت على قلوبهم. وأن تكون صورة المعنى في قوله عز وجل: " واشتعل الرأس شيباً " صورته في قول من يقول: وشاب رأسي كله، وابيض رأسي كله. وحتى لا يروا فرقاً بين قوله تعالى: " فما ربحت تجارتهم " وبين: فما ربحوا في تجارتهم، وحتى يرتكبوا جميع ما أريناك الشناعة فيه من أن لا يكون فرق بين قول المتنبي:
وتأبى الطباع على الناقل
وبين قولهم: إنك لا تقدر أن تغير طباع الإنسان. ويجعلوا حال المعنى في قول أبي نواس:
وليس الله بمستنكر... أن يجمع العالم في واحد


الصفحة التالية
Icon