كحاله في قولنا: إنه ليس ببديع في قدرة الله أن يجمع فضائل الخلق كلهم في واحد. ويرتكبوا ذلك في الكلام كله، حتى يزعموا أنا إذا قلنا في قوله تعالى: " ولكم القصاص حياة " : أن المعنى فيها أنه لما كان الإنسان إذا هم بقتل آخر لشيء غاظه منه فذكر أنه إن قتله قتل ارتدع صار المهموم بقتله كأنه قد استفاد حياة فيما يستقبل بالقصاص كما قد أدينا المعنى في تفسيرنا هذا على صورته التي هو عليها في الآية حتى لا نعرف فضلاً. وحتى يكون حال الآية والتفسير حال اللفظتين، إحداهما غريبة والأخرى مشهورة فتفسر الغريبة بالمشهورة، مثل أن تقول مثلاً في الشرجب إنه الطويل: وفي القط إنه الكتاب، وفي الدسر إنه المسامير. ومن صار الأمر به إلى هذا كان الكلام معه محالاً. واعلم أنه ليس عجيب أعجب من حال من يرى كلامين، أجزاء أحدهما مخالفة معانيها لأجزاء الآخر. ثم يرى أنه يسع في العقل أن يكون معنى أحد الكلامين مثل معنى الآخر سواء، حتى يتصدى فيقول: إنه لو كان يكون الكلام فصيحاً من أجل مزية تكون في معناه لكان ينبغي أن توجد تلك المزية في تفسيره. ومثله في العجب أنه ينظر إلى قوله تعالى: " فما ربحت تجارتهم "، فيرى إعراب الاسم الذي هو التجارة قد تغير فصار مرفوعاً بعد أن كان مجروراً. ويرى أنه قد حذف من اللفظ بعض ما كان فيه، وهو الواو في ربي و فيمن قولنا: في تجارتهم. ثم لا نعلم أن ذلك يقتضي أن يكون المعنى قد تغير كما تغير اللفظ.
واعلم أنه ليس للحجج والدلائل في صحة ما نحن عليه حد ونهاية. وكلما انتهى منه باب انفتح فيه باب آخر. وقد أردت أن آخذ في نوع آخر من الحجاج ومن البسط والشر فتأمل ما أكتبه لك: اعلم أن الكلام الفصيح ينقسم قسمين: قسم تعزى المزية والحسن فيه إلى اللفظ وقسم يعزى ذلك فيه إلى النظم. فالقسم الأول: الكناية والاستعارة والتمثيل الكائن على الاستعارة، وكل ما كان فيه على الجملة مجاز واتساع وعدول باللفظ عن الظاهر. فما من ضرب من هذه الضروب إلا وهو إذا وقع على الصواب، وعلى ما ينبغي أوجب الفضل والمزية. فإذا قلت: هو كثير رماد القمر. كان له موقع وحظ من القبول لا يكون إذا قلت: هو كثير القرى والضيافة. وكذا إذا قلت: هو طويل النجاد كان له تأثير في النفس لا يكون إذا قلت: هو طويل القامة. وكذا إذا قلت: رأيت أسداً. كان له مزية لا تكون إذا قلت: رأيت رجلاً يشبه الأسد، ويساويه في الشجاعة. وكذلك إذا قلت: أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى. كان له موقع لا يكون إذا قلت: أراك تتردد في الذي دعوتك إليه: كمن يقول: أخرج ولا أخرج، فيقدم رجلاً ويؤخر أخرى. وكذلك إذا قلت: ألقى حبله على غاربه. كان له مأخذ من القلب لا يكون إذا قلت: هو كالبعير الذي يلقى حبله على غاربه حتى يرعى كيف يشاء، ويذهب حيث يريد. لا يجهل المزية فيه إلا عديم الحس، ميت النفس، وإلا من لا يكلم، لأنه من مبادي المعرفة التي من عدمها لم يكن للكلام معه معنى.
وإذ قد عرفت هذه الجملة فينبغي أن تنظر إلى هذه المعاني واحداً واحداً وتعرف محصولها وحقائقها، وأن تنظر أولاً إلى الكناية. وإذا نظرت إليها وجدت حقيقتها ومحصول أمرها أنها إثبات لمعنى أنت تعرف ذلك المعنى من طريق المعقول دون طريق اللفظ. إلا ترى أنك لما نظرت إلى قولهم: هو كثير رماد القدر، وعرفت منه أنهم أرادوا أنه كثير القرى والضيافة، لم تعرف ذلك من اللفظ، ولكنك عرفته بأن رجعت إلى نفسك فقلت: إنه كلام قد جاء عنهم في المدح، ولا معنى للمدح بكثرة الرماد. فليس إلا أنهم أرادوا أن يدلوا بكثرة الرماد على أنه تنصب له القدور الكثيرة، ويطبخ فيها للقرى والضيافة، وذلك لأنه إذا كثر الطبخ في القدور كثر إحراق الحطب تحتها. وإذا كثر إحراق الحطب كثر الرماد لا محالة. وهكذا السبيل في كل ما كان كناية، فليس من لفظ الشعر عرفت أن ابن هرمة أراد بقوله:
ولا أبتاع إلا قريبة الأجل
التمدح بأنه مضياف: ولكنك عرفته بالنظر اللطيف، وبأن علمت أنه لا معنى للتمدح بظاهر ما يدل عليه اللفظ من قرب أجل ما يشتريه، فطلبت له تأويلاً. فعلمت أنه أراد أن يشتري ما يشتريه للأضياف. فإذا اشترى شاة أو بعيراً كان قد اشترى ما قد دنا أجله لأنه يذبح وينحر عن قريب.
وإذ قد عرفت هذا في الكناية، فالاستعارة في هذه القضية وذاك أن موضوعها على أنك