تثبت بها معنى لا يعرف السامع ذلك المعنى من اللفظ. ولكنه يعرفه من معنى اللفظ. بيان هذا أنا نعلم أنك لا تقول: رأيت أسداً. إلا وغرضك أن تثبت للرجل أنه مساو للأسد في شجاعته وجرأته وشدة بطشه وإقدامه، وفي أن الذعر لا يخامره، والخوف لا يعرض له. ثم تعلم أن السامع إذا عقل هذا المعنى لم يعقله من لفظ أسد، ولكنه يعقله من معناه، وهو أنه يعلم أنه لا معنى لجعله أسداً مع العلم بأنه رجل، إلا أنك أردت أنه بلغ من شدة مشابهته للأسد ومساواته إياه مبلغاً يتوهم معه أنه أسد بالحقيقة، فاعرف هذه المجملة وأحسن تأملها.
واعلم أنك ترى الناس، وكأنهم يرون أنك إذا قلت: رأيت أسداً، وأنت تريد التشبيه كنت نقلت لفظ أسد عما وضع له في اللغة، واستعملته في معنى غير معناه، حتى كأن له الاستعارة إلا أن تعمد إلى اسم الشيء، فتجعله اسماً لشبيهه، وحتى كأن لا فصل بين الاستعارة وبين تسمية المطر سماء، والنبت غيثاً، والمزادة راوية، وأشباه ذلك مما يوقع اسم الشيء على ما هو منه بسبب. ويذهبون عما هو مركوز في الطباع من أن المعنى فيها المبالغة، وأن يدعى في الرجل أنه ليس برجل، ولكنه أسد بالحقيقة. وأنه إنما يعار اللفظ من بعد أن يعار المعنى، وأنه لا يشرك في اسم الأسد إلا من بعد أن يدخل في جنس الأسد. لا ترى أحداً يعقل إلا وهو يعرف ذلك إذا رجع إلى نفسه أدنى رجوع. ومن أجل أن كان الأمر كذلك رأيت العقلاء كلهم يثبتون القول بأن من شأن الاستعارة أن تكون أبداً أبلغ من الحقيقة، وإلا فإن كان ليس هاهنا إلا نقل اسم من شيء إلى شيء فمن: يجب ليت شعري أن تكون الاستعارة أبلغ من الحقيقة، ويكون لقولنا: رأيت أسداً، كل على قولنا: رأيت شبيها بالأسد، وقد علمنا أنه محال أن يتغير الشيء في نفسه بأن ينقل اسم قد وضع لغيره من بعد أن لا يراد من معنى ذلك الاسم فيه شيء بوجه من الوجوه، يجعل كأنه لم يوضع لذلك المعنى الأصلي أصلاً، وفي أي عقل يتصور أن يتغير معنى شبيهاً بالأسد بأن يوضع لفظ أسد عليه وينقل إليه.
واعلم أن العقلاء بنوا كلامهم إذ قاسوا وشبهوا على أن الأشياء تستحق الاسامي لخواص معان هي فيها دون ما عداها. فإذا أثبتوا خاصة شيء لشيء أثبتوا له اسمه. فإذا جعلوا الرجل بحيث لا تنقص شجاعته عن شجاعة الأسد، ولا يعدم منها شيئاً قالوا: أسد. وإذا وصفوه بالتناهي في الخير والخصال الشريفة أو بالحسن الذي يبهر قالوا: ملك. وإذا وصفوا الشيء بغاية الطيب قالوا: هو مسك، وكذلك الحكم أبداً. ثم إنهم استقصوا في ذلك نفوا عن المشبه اسم جنسه، فقالوا: ليس هو بإنسان، وإنما هو أس وليس هو أسد، وليس هو آدمياً، وإنما هو ملك. كما قال الله تعالى: " ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم ". ثم إن لم يريدوا أن يخرجوه عن جنسه جملة قالوا: هو أسد في صورة إنسان، وهو ملك في صورة آدمي. وقد خرج هذا للمتنبي في أحسن عبارة، وذلك في قوله، من الخفيف:

نحن ركب ملجن في زي ناس فوق طير لها شخوص الجمال!
ففي هذه الجملة بيان لمن عقل أن ليست الاستعارة نقل اسم عن شيء إلى شيء، ولكنها ادعاء معنى الاسم لشيء. إذ لو كانت نقل اسم وكان قولنا: رأيت أسداً، بمعنى رأيت شبيهاً بالأسد، ولم يكن ادعاء أنه أسد بالحقيقه لكان محالاً أن يقال: ليس هو بإنسان، ولكنه أسد، أو هو أسد في صورة إنسان. كما أنه محال أن يقال: ليس هو بإنسان ولكنه شبيه أسد، أو يقال: هو شبية بأسد، في صورة إنسان.


الصفحة التالية
Icon