واعلم أنه قد كثر في كلام الناس استعمال لفظ النقل في الاستعارة. فمن ذلك قولهم: إن الاستعارة تعليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة على سبيل النقل. قال القاضي أبو الحسن: الاستعارة ما اكتفي فيه بالاسم المستعار عن الاصلي، ونقلص لعبارة فجعلت في مكان غيرها. ومن شأن ما غمض من المعاني ولطف أن يصعب تصويره على الوجه الذي هو عليه لعامة الناس، فيقع لذلك في العبارات التي يعبر بها عنه ما يوهم الخطأ. وإطلاقهم في الاستعارة أنها نقل للعبارة عما وضعت له من ذلك، فلا يصح الأخذ به. وذلك أنك إذا كنت لا تطلق اسم الأسد على الرجل إلا من بعد أن تدخله في جنس الأسود من الجهة التي بينا لم تكن نقلت الاسم عما وضع له بالحقيقة، لأنك إنما تكون ناقلاً إذا أنت أخرجت معناه الأصلي من أن يكون مقصودك ونفضت به يدك. فأما أن تكون ناقلاً له عن معناه مع إرادة معناه فمحال متناقض.
واعلم أن في الاستعارة ما لا يتصور تقدير النقل فيه البتة، وذلك مثل قول لبيد من الكامل:
وغداة ريح قد كشفت وقرة | إذ أصبحت بيد الشمال زمامها |
لا خلاف في أن اليد استعارة. ثم إنك لا تستطيع أن تزعم أن لفظ اليد قد نقل عن شيء إلى شيء. وذلك أنه ليس المعنى على أنه شبه شيئاً باليد، فيمكنك أن تزعم أنه نقل لفظ اليد إليه، وإنما المعنى على أنه أراد أن يثبت للشمال في تصريفها الغداة على طبيعتها شبه الإنسان قد أخذ الشيء بيده يقلبه ويصرفه كيف يريد. فلما أثبت لها مثل فعل الإنسان باليد استعار لها اليد. وكما لا يمكنك تقدير النقل في لفظ اليد كذلك لا يمكنك أن تجعل الاستعارة فيه من صفة اللفظ. إلا ترى أنه محال أن تقول إنه استعار لفظ اليد للشمال، وكذلك سبيل نظائره مما تجدهم قد أثبتوا فيه للشيء عضوا من أعضاء الانسان من أجل إثباتهم له المعنى الذي يكون في ذلك العضو من الإنسان كبيت الحماسة، من الطويل:
إذا هزه في عظم قرن تهللت | نواجذ أفواه المنايا الضواحك |
فإنه لما جعل المنايا تضحك جعل لها الأفواه والنواجذ التى يكون الضحك فيها، وكبيت المتنبي من الطويل:
خميس بشرق الأرض والغرب زحفه | وفي أذن الجوزاء منه زمازم |
لما جعل الجوزاء تسمع، على عاداتهم في جعل تعقل ووصفهم لها لما يوصف بها الأناسي، أثبت لها الأذن التي بها يكون السمع من الأناسي. فأنت الآن لا تستطيع أن تزعم في بيت الحماسة أنه استعار لفظ النواجذ ولفظ الأفواه، لأن ذلك يوجب المحال. وهو أن يكون في المنايا شيء قد شبهه بالنواجذ، وشيء قد شبهه بالأفواه. فليس إلا أن تقول: إنه لما ادعى أن المنايا تسر وتستبشر إذا هو هز السيف وجعلها لسرورها بذلك تضحك، أراد أن يبالغ في الأمر، فجعلها في صورة من يضحك حتى تبدو نواجذه من شدة السرور. وكذلك لا تستطيع أن تزعم أن المتنبي قد استعار لفظ الأذن، لأنه يوجب أن يكون في الجوزاء شيء قد أراد تشبيهه بالأذن، وذلك من شنيع المحال.
فقد تبين من غير وجه أن الاستعاره إنما هي ادعاء معنى الاسم للشيء لا نقل الاسم عن الشيء. وإذا ثبت أنها ادعاء معنى الاسم للشيء علمت أن الذي قالوه من أنها تعليق للعبارة على غير ما وضعت في اللغة، ونقل لها عما وضعت له، كلام قد تسامحوا فيه، لأنه إذا كانت الاستعارة ادعاء معنى الاسم لم يكن الاسم مزالاً عما وضع له بل مقراً عليه.