ثم إنا، وإن كنا في زمان هو على ما هو عليه من إحالة الأمور عن جهاتها، وتحويل الأشياء عن حالاتها، ونقل النفوس عن طباعها، وقلب الخلائق المحمودة إلى أضدادها، ودهر ليس للفضل وأهله لديه إلا الشر صرفاً والغيظ بحتاً، وإلا ما يدهش عقولهم، ويسلبهم معقولهم، حتى صار أعجز الناس رأياً عند الجميع من كانت له همة في أن يستفيد علماً، أو يزداد فهماً، أو يكتسب فضلاً، أو يجعل له ذلك بحال شغلاً، فإن الإلف من طباع الكريم، إذا كان من حق الصديق عليك، ولا سيما إذا تقادمت صحبته وصحت صداقته، أن لا تجفوه بأن تنكبك الأيام، وتضجرك النوائب، وتحرجك محن الزمان، فتتناساه جملة، وتطويه طياً. فالعلم الذي هو صديق لا يحول عن العهد، ولا يدغل في الود، وصاحب لا يصح عليه النكث والغدر، ولا يظن به الخيانة والمكر، أولى منه بذلك وأجدر، وحقه عليك أكبر.
ثم إن التوق إلى أن تقر الأمور قرارها، وتوضع الأشياء مواضعها، والنزاع إلى بيان ما يشكل، وحل ما ينعقد، والكشف عما يخفى، وتلخيص الصفة حتى يزداد السامع ثقة، بالحجة، واستظهاراً على الشبهة، واستبانة للدليل، وتبييناً للسبيل، شيء في سوس العقل، وفي طباع النفس إذا كانت نفساً.
ولم أزل منذ خدمت العلم أنظر فيما قاله العلماء في معنى الفصاحة والبلاغة، والبيان البراعة، وفي بيان المغزى من هذه العبارات، وتفسير المراد بها، فأجد بعض ذلك كالرمز والإيماء، والإشارة في خفاء. وبعضه كالتنبيه على مكان الخبيء ليطلب، وموضع الدفين ليبحث عنه فيخرج. وكما يفتح لك الطريق إلى المطلوب لتسلكه، وتوضع لك القاعدة لتبنى عليها، ووجدت المعول على أن ها هنا نظماً وترتيباً، وتأليفاً وتركيباً، وصياغة وتصويراً، ونسجاً وتحبيراً، وأن سبيل هذه المعاني في الكلام الذي هي مجاز فيه سبيلها في الأشياء التي هي حقيقة فيها. وأنه كما يفضل هناك النظم النظم، والتأليف التأليف والنسج النسج، والصياغة الصياغة. ثم يعظم الفضل، وتكثر المزية، حتى يفوق الشي نظيره، والمجانس له درجات كثيرة. وحتى تتفاوت القيم التفاوت الشديد. كذلك يفضل بعض الكلام بعضاً، ويتقدم منه الشيء الشيء، ثم يزداد فضله ذلك، ويترقى منزلة فوق منزلة، ويعلو مرقباً بعد مرقب. وتستأنف له غاية بعد غاية، حتى ينتهي إلى حيث تنقطع الأطماع، وتحسر الظنون، وتسقط القوى، وتستوي الأقدام في العجز.
وهذه جملة، قد يرى في أول الأمر وبادئ الظن أنها تكفي وتغني. حتى إذا نظرنا فيها وعدنا وبدأنا وجدنا الأمر على خلاف ما حسبناه، وصادفنا الحال على غير ما توهمناه وعلمنا أنهم لئن أقصروا اللفظ لقد أطالوا المعنى، وإن لم يغرقوا في النزع لقد أبعدوا علم ذاك في المرمى، وذاك لأنه يقال لنا: ما زدتم على أن قستم قياساً، فقلتم: نظم ونظم وترتيب وترتيب، ونسج ونسج. ثم بنيتم عليه أنه ينبغي أن تظهر المزية في هذه المعاني هاهنا حسب ظهورها هناك. وأن يعظم الأمر في ذلك كما عظم ثم، وهذا صحيح كما قلتم ولكن بقي أن تعلمونا مكان المزية في الكلام، وتصفوها لنا وتذكروها ذكراً كما ينص الشيء ويعين، ويكشف عن وجهه ويبين. ولا يكفي أن تقولوا: إنه خصوصية في كيفية النظم وطريقة مخصوصة في نسق الكلم بعضها على بعض حتى تصفوا تلك الخصوصية وتبينوها، وتذكروا لها أمثلة وتقولوا: مثل كيت وكيت. كما يذكر لك من تستوصفه عمل الديباج المنقش ما تعلم به وجه دقة الصنعة، أو يعلمه بين يديك حتى ترى عياناً كيف تذهب تلك الخيوط وتجيء؟ وماذا يذهب منها طولاً وماذا يذهب منها عرضاً؟ وبم يبدأ وبم سي وبم يثني. وتبصر من الحساب الدقيق؟ ومن عجيب تصرف اليد ما تعلم منه مكان الحذق، وموضع الأستاذية. ولو كان قول القائل لك في تفسير الفصاحة: إنها خصوصية في نظم الكلم، وضم بعضها إلى بعض على طريق مخصوصة، أو على وجوه تظهر بها الفائدة. أو ما أشبه ذلك من القول المجمل كافياً في معرفتها، ومغنياً في العلم بها، لكفى مثله في معرفة الصناعات كلها. فكان يكفي في معرفة نسج الديباج الكثير التصاوير أن تعلم أنه ترتيب للغزل على وجه مخصوص، وضم لطاقات الأبريسم بعضها إلى بعض على طرق شتى، وذلك ما لا يقوله عاقل.