والثاني: أن المعنى في تفسيرنا الشرجب بالطويل أن نعلم السامع أن معناه هو معنى الطويل بعينه. وإذا كان كذلك كان محالاً أن يقال: إن معناه يدل على معنى الطويل: والذي يعقل أن يقال إن معناه هو معنى الطويل. فاعرف ذلك، وانظر إلى لعب الغفلة بالقوم. وإلى ما رأوا في منامهم من الأحلام الكاذبة. ولو أنهم تركوا الاستنامةإلى التقليد، والأخذ بالهوينا، وترك النظر. وأشعروا قلوبهم أن هاهنا كلاماً ينبغي أن يصغى إليه. لعلموا، ولعاد إعجابهم بأنفسهم في سؤالهم هذا وفي سائر أقوالهم عجباً منها ومن تطويح الظنون بها وإذ قد بان سقوط ما اعترض به القوم، وفحش غلطهم. فينبغي أن تعلم أن ليست المزايا التي تجدها لهذه الأجناس على الكلام المتروك على ظاهره، والمبالغة التي تحسها في أنفس المعاني التي يقصد المتكلم بخبره إليها، ولكنها في طريق إثباته لها، وتقريره إياها، وأنك إذا سمعتهم يقولون: إن من شأن هذه الأجناس أن تكسب المعاني مزية وفضلاً، وتوجب لها شرفاً ونبلاً، وأن تفخمها في نفوس السامعين، لا يعنون أنفس المعاني التي يقصد المتكلم بخبره إليها كالقرى والشجاعة والتردد في الرأي، وإنما يعنون إثباتها لما تثبت له، ويخبر بها عنه. فإذا جعلوا للكناية مزية على التصريح لم يجعلوا تلك المزية في المعنى المكنى عنه، ولكن في إثباته للذي ثبت له. وذلك أنا نعلم أن المعاني التي يقصد الخبر بها لا تتغير في أنفسها بأن يكنى عنها بمعان سواها، ويترك أن تذكر الألفاظ التي لها في اللغة. ومن هذا الذي يشك أن معنى طول القامة وكثرة القرى لا يتغيران بأن يكنى عنهما بطول النجاد وكثرة رماد القدر، وتقدير التغيير فيهما يؤدي إلى أن لا تكون الكناية عنهما ولكن عن غيرهما. وقد ذكرت هذا في صدر الكتاب، وذكرت أن السبب في أن يكون للإثبات إذا كان من طريق الكناية مزية لا تكون إذا كان من طريق التصريح أنك كنيت عن كثرة القرى بكثرة رماد القدر كنت قد أثبت كثرة القرى بإثبات شاهدها ودليلها، هو علم على وجودها. وذلك لا محالة يكون أبلغ من إثباتها بنفسها، وذلك لأنه يكون سبيلها حينئذ سبيل الدعوى تكون مع شاهد. وذكرت أن السبب في أن كانت الاستعارة أبلغ من الحقيقة أنك إذا ادعيت للرجل أنه أسد بالحقيقة كان ذلك أبلغ وأشد في تسويته بالأسد في الشجاعة. وذاك لأنه أن يكون من الأسود، ثم لا تكون له شجاعة الأسود. وكذلك الحكم في التمثيل فإذا قلت: أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، كان أبلغ في إثبات التردد له من أن تقول: أنت كمن يقدم رجلا ويؤخر أخرى.
واعلم أنه قد يهجس في نفس الإنسان شيء يظن من أجله أنه ينبغي أن يكون الحكم في المزية التي تحدث بالاستعارة أنها تحدث في المثبت دون الإثبات، وذلك أن تقول: إنا إذا نظرنا إلى الاستعارة وجدناها، إنما كانت أبلغ من أجل أنها تدل على قوة الشبه، وأنه قد تناهى إلى أن صار المشبه به لا يتميز عن المشبه به في المعنى الذي من أجله شبه به. وإذا كان كذلك كانت المزية الحادثة بها حادثة في الشبه، وإذا كانت حادثة في الشبه كانت في المثبت دون الإثبات.
والجواب عن ذلك أن يقال إن الاستعارة لعمري تقتضي قوة الشبه، وكونه بحيث لا يتميز المشبه عن المشبه به، ولكن ليس ذاك سبب المزية، وذلك لأنه لو كان ذاك سبب المزية لكان ينبغي إذا جئت به صريحاً فقلت: رأيت رجلاً مساوياً للأسد في الشجاعة، وبحيث لولا صورته لظننت أنك رأيت أسداً. وما شاكل ذلك من ضروب المبالغة أن تجد لكلامك المزية التي تجدها لقولك أسداً. وليس يخفى على عاقل أن ذلك لا يكون.
فإن قال قائل: إن المزية من أجل أن المساواة تعلم في رأيت أسداً من طريق المعنى، وفي رأيت رجلاً مساوياً للأسد من طريق اللفظ، قيل قد قلنا فيما تقدم إنه محال أن يتغير حال المعنى في نفسه بأن يكنى عنه بمعنى آخر، وأنه لا يتصور أن يتغير معنى طول القامة بأن يكنى عنه بطول النجاد، ومعنى كثرة القرى بأن يكنى عنه بكثرة الرماد. وكما أن ذلك لا يتصور فكذلك لا يتصور أن يتغير معنى مساواة الرجل الأسد في الشجاعة بأن يكنى عن ذلك، ويدل عليه بأن تجعله أسداً. فأنت الآن إذا نظرت إلى قوله، من البسيط:
فأسبلت لؤلؤاً من نرجس وسقت | ورداً وعضت على العناب بالبرد |