ولقد بلغ من قلة نظرهم أن قوماً منهم لما رأوا الكتب المصنفة في اللغة قد شاع فيها أن توصف الألفاظ المفردة بالفصاحة، ورأوا أبا العباس ثعلباص قد سمى كتابه الفصيح مع أنه لم يذكر فيه إلا اللغة والألفاظ المفردة. وكان محالاً إذا قيل: إن الشمع بفتح الميم أفصح من الشمع بإسكانه أن يكون ذلك من أجل المعنى، إذ ليس تفيد الفتحة في الميم شيئاً في الذي سمي به. سبق إلى قلوبهم أن حكم الوصف بالفصاحة أينما كان وفي أي شيء كان أن لا يكون له مرجع إلى المعنى البتة، وأن يكون وصفاً للفظ في نفسه، ومن حيث هو لفظ ونطق لسان. ولم يعلموا أن المعنى في وصف الألفاظ المفردة بالفصاحة أنها في اللغة أثبت، وفي استعمال الفصحاء أكثر، أو أنها أجرى على مقاييس اللغة والقوانين التي وضعوها، وأن الذي هو معنى الفصاحة في أصل اللغة هو الإبانة عن المعنى بدلالة قولهم: فصيح وأعجم، أفصح الاعجمي، وأفصح اللحان، وأفصح الرجل بكذا: إذا صرح به. وأنه لو كان وصفهم هو لها من حيث هي ألفاظ ونطق لسان لوجب إذا وجدت كلمة يقال: إنها فصيحة على صفة في اللفظ أن لا توجد كلمة على تلك الصفة إلا وجب لها أن تكون فصيحة، وحتى يجب إذا كان فقهت الحديث بالكسر أفصح منه بالفتح أن يكون سبب كل فعل مثله في الزنة أن يكون الكسر فيه أفصح من الفتح. ثم إن فيما أودعه ثعلب كتابه ما هو أفصح من أجل أن لم يكن فيه حرف كان فيما جعله أفصح منه. مثل إن وقفت أفصح من أوقفت أفترى أنه حدث في الواو والقاف والفاء بأن لم يكن معها الهمزة فضيلة وجب لها أن تكون أفصح. وكفى برأي هذا مؤداه تهافتاً وخطلاً.
وجملة الأمر أنه لا بد لقولنا: الفصاحة من معنى يعرف، فإن كان ذلك المعنى وصفاً في ألفاظ الكلمات المفردة فينبغي أن يشار لنا إليه، وتوضع اليد عليه، ومن أبين ما يدل على علم قلة نظرهم أنه لا شبهة على من نظر في كتاب تذكر فيه الفصاحة أن الاستعارة عنوان ما يجعل به اللفظ فصيحاً، وأن المجاز جملته والإيجاز من معظم ما يوجب للفظ الفصاحة وأنت تراهم يذكرون ذلك ويعتمدونه. ثم يذهب عنهم أن إيجابهم الفصاحة للفظ بهذه المعاني اعتراف بصحة ما نحن ندعوهم إلى القول به من أنه يكون فصيحاً لمعناه.
أما الاستعارة فإنهم إن أغفلوا فيها الذي قلناه من أن المستعار بالحقيقة يكون معنى اللفظ، واللفظ تبع من حيث إنا لا نقول: رأيت أسداً، ونحن نعني رجلاً إلا على أنا ندعو أنا رأينا أسداً بالحقيقة من حيث نجعله لا يتميز عن الأسد في بأسه وبطشه وجراءة قلبه فإنهم على كل حال لا يستطيعون أن يجعلوا الاستعارة وصفاً للفظ من حيث هو لفظ، مع أن اعتقادهم أنك إذا قلت: رأيت أسداً، كنت نقلت اسم الأسد إلى الرجل، أو جعلته هكذا غفلاً ساذجاً في معنى شجاع. أفترى أن لفظ الأسد لما نقل عن السبع إلى الرجل المشبه به أحدث هذا النقل في أجراس حروفه ومذاقتها وصفاً صار بذلك الوصف فصيحاً.
ثم إن من الاستعاره قبيلاً لا يصح أن يكون المستعار فيه اللفظ البتة، ولا يصح أن تقع الاستعارة فيه إلا على المعنى، وذلك ما كان مثل اليد في قول لبيد، من الكامل:

وغداة ريح قد كشفت وقرة إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
ذاك أنه ليس هاهنا شيء يزعم أنه شبهه باليد، حتى يكون لفظ اليد مستعاراً له. وكذلك ليس فيه شيء يتوهم أن يكون قد شبهه بالزمام، وإنما المعنى على أنه شبه الشمال في تصريفها الغداة على طبيعتها بالإنسان يكون زمام البعير في يده. فهو يصرفه على إرادته. ولما أراد ذلك جعل للشمال يداً، وعلى الغداة زماماً. وقد شرحت هذا قبل شرحاً شافياً.
وليس هذا الضرب من الاستعارة بدون الضرب الأول من إيجاب وصف الفصاحة للكلام، لا بل هو أقوى منه في اقتضائها. والمحاسن التي تظهر به، والصور التي تحدث للمعاني بسببه آنق وأعجب. وإن أردت أن تزداد علماً بالذي ذكرت لك من أمره فانظر إلى قوله، من الرجز:
سقته كف الليل أكؤس الكرى
وذلك أنه ليس يخفى على عاقل أنه لم يرد أن يشبه شيئاً بالكف، ولا أراد ذلك في الأكؤس. ولكن لما كان يقال: سكر الكرى وسكر النوم، استعار للكرى الأكؤس، كما استعار الآخر الكأس في قوله، من البسيط:
وقد سقى القوم كأس النعسة السهر


الصفحة التالية
Icon