وقد ذكرت في الذي تقدم عين ما ذكرته هاهنا مما يدل على سقوط هذا القول. وما دعاني إلى إعادة ذكره إلا أنه ليس تهالك الناس في حديث اللفظ، والمحاماة على الاعتقاد الذي اعتقدوه، فيه، وضن أنفسهم به إلى حد. فأحببت لذلك أن لا أدع شيئاً مما يجوز أن يتعلق به متعلق، ويلجأ إليه لاجىء، ويقع منه في نفس سامع شك إلا استقصيت في الكشف عن بطلانه.
وهاهنا أمر عجيب، وهو أنه معلوم لكل من نظر أن الألفاظ من حيث هي ألفاط وكلم ونطق لسان لا تختص بواحد دون آخر، وأنها إنما تختص إذا توخي فيها النظم. وإذا كان كذلك كان من رفع النظم من البين وجعل الإعجاز بجملته في سهولة الحروف وجريانها، جاعلاً له فيما لا يصح إضافته إلى الله تعالى، وكفى بهذا دليلاً على عدم التوفيق، وشدة الضلال عن الطريق.
فيه إجمال وعظة
قد بلغنا في مداواة الناس من دائهم، وعلاج الفساد الذي عرض في آرائهم، كل مبلغ، وانتهينا إلى كل غاية، وأخذنا بهم عن المجاهل التي كانوا يتعسفون فيها إلى السنن اللاحب، ونقلناهم، عن الآجن المطروق إلى النمير الذي يشفي غليل الشارب. ولم ندع لباطلهم عرقاً ينبض إلا كويناه، ولا للخلاف لساناً ينطق إلا أخرسناه. ولم نترك غطاء كان على بصر ذي عقل إلا حسرناه.
فيا أيها السامع لما قلناه، والناظر فيما كتبناه، والمتصفح لما دوناه، إن كنت سمعت سماع صادق الرغبة في أن تكون في أمرك على بصيرة، ونظرت نظر تام العناية في أن يورد ويصدر عن معرفة، وتصفحت تصفح من إذا مارس باباً من العلم لم يقنعه إلا أن يكون على ذروة السنام، ويضرب بالمعلى من السهام، فقد هديت لضالتك، وفتح الطريق إلى بغيتك، وهي لك الأداة التي بها تبلغ، وأوتيت الآلة التي معها تصل. فخذ لنفسك بالتي هي أملاً ليديك، وأعود بالحظ عليك، ووازن بين حالك الآن وقد تنبهت من رقدتك، وأفقت من غفلتك، وصرت تعلم إذا أنت خضت في أمر اللفظ والنظم معنى ما تذكر، وتعلم كيف تورد وتصدر، وبينها وأنت من أمرها في عمياء، وخابط خبط عشواء. قصاراك أن تكرر ألفاظاً لا تعرف لشيء منها تفسيراً، وضروب كلام للبلغاء إن سئلت عن أغراضهم فيها لم تستطع، تبييناً، فإنك تراك تطيل التعجب من غفلتك، وتكثر الاعتذار إلى عقلك من الذي كنت عليه طول مدتك. ونسأل الله تعالى أن يجعل كل ما نأتيه، ونقصده وننتحيه، لوجهه خالصاً، إلى رضاه عز وجل مؤدياً، ولثوابه مقتضياً، وللزلفى عنده موجباً، بمنه وفضله ورحمته.

بسم الله الرحمن الرحيم

اللفظ والاستعارة وشواهد تحليلية للمعنى


الصفحة التالية
Icon