بسم الله الرحمن الرحيم

نماذج تحليلية لأهمية النظم
أعلم أنك لن ترى عجباً أعجب من الذي عليه الناس في أمر النظم، وذلك أنه ما من أحد له أدنى معرفة إلا وهو يعلم أن هاهنا نظماً أحسن من نظم. ثم تراهم إذا أنت أردت أن تبصرهم ذلك تسدر أعينهم، وتضل عنهم أفهامهم. وسبب ذلك أنهم أول شيء عدموا العلم به نفسه من حيث حسبوه شيئاً غير توخي معاني النحو، وجعلوه يكون في الألفاظ دون المعاني. فأنت تلقى الجهد حتى تميلهم عن رأيهم، لأنك تعالج مرضاً مزمناً. وداء متمكتاً. ثم إذا أنت قدتهم بالخزائم إلى الاعتراف بأن لا معنى له غير توخي معاني النحو عرض لهم من بعد خاطر يدهشهم، حتى يكادوا يعودون إلى رأس أمرهم. وذلك أنهم يروننا ندعي المزية والحسن لنظم كلام من غير أن يكون فيه من معاني النحو شيء يتصور أن يتفاضل الناس في العلم به، ويروننا لا نستطيع أن نضع اليد من معاني النحو ووجوهه على شيء نزعم أن من شأن هذا أن يوجب المزية لكل كلام يكون فيه، بل يروننا ندعي المزية لكل ما ندعيها له من معاني النحو ووجوهه وفروقه في موضع دون موضع، وفي كلام دون كلام، وفي الأقل دون الأكثر، وفي الواحد من الألف. فإذا رأوا الأمر كذلك دخلتهم الشبهة، وقالوا: كيف يصير المعروف مجهولاً. ومن أين يتصور أن يكون للشيء في كلام مزية عليه في كلام آخر بعد أن تكون حقيقته فيهما حقيقة واحدة. فإذا رأوا التنكير يكون فيما لا يحصى من المواضع، ثم لا يقتضي فضلاً، ولا يوجب مزية اتهمونا في دعوانا ما ادعيناه لتنكير الحياة في قوله تعالى: " ولكم في القصاص حياة " من أن له حسناً ومزية، وأن فيه بلاغة عجيبة، وظنوه وهماً منا وتخيلاً. ولسنا نستطيع في كشف الشبهة في هذا عنهم، وتصوير الذي هو الحق عندهم، ما استطعناه في نفس النظم، لأنا ملكنا في ذلك أن نضطرهم إلى أن يعلموا صحة ما نقول، وليس الأمر في هذا كذلك، فليس الداء فيه بالهين ولا هو بحيث إذا رمت العلاج منه وجدت الإمكان فيه مع كل أحد مسعفاً، والسعي منجحاً لأن المزايا التي تحتاج أن تعلمهم مكانها، وتصور لهم شأنها، أمور خفية، ومعان روحانية أنت لا تستطيع أن تنبه السامع لها، وتحدث له علماً بها، حتى يكون مهيأ لإدراكها، وتكون فيه طبيعة قابلة لها، ويكون له ذوق وقريحة يجد لهما في نفسه إحساساً بأن من شأن هذه الوجوه والفروق أن تعرض فيها المزية على الجملة، وممن إذا تصفح الكلام وتدبر الشعر فرق بين موقع شيء منها وشيء، وممن إذا أنشدته قوله، من السريع:
لي منك ماللناس كلهم... نظر وتسليم على الطرق
وقول البحتري، من الكامل:
وسأستقل لك الدموع صبابة... ولو أن دجلة لي عليك دموع
وقوله، من الطويل:
رأت مكنات الشيب فابتسمت لها... وقالت نجوم لو طلعن بأسعد
وقول أبي نواس، من البسيط:
ركب تساقوا على الأكوار بينهم... كأس الكرى فانتشى المسقي والساقي
كأن أعناقهم والنوم واضعها... على المناكب لم تعمد بأعناق
وقوله، من الكامل:
ياصاحبي عصيت مصطبحا... وغدوت لللذات مطرحا
فتزودا مني محادثة... حذرالعصا لم يبق لي مرحا
وقول إسماعيل بن يسار، من السريع:
وحتى إذا الصبح بدا ضوؤه... وغابت الجوزاء والمرزم
خرجت والوطء خفي كما... ينساب من مكمنه الأرقم
أنق لها، وأخذته أريحية عندها، وعرف لطف موقع الحذف والتنكير في قوله:
نظر وتسليم على الطرق
وما في قول البحتري: لي عليك دموع، من شبه السحر، وان ذلك من أجل تقديم لي، على عليك، ثم تنكير الدموع. وعرف كذلك شرف قوله:
وقالت نجوم لوطلعن بأسعد
وعلو طبقته، ودقة صنيعته. والبلاء، والداء العياء أن هذا الإحساس قليل في الناس، حتى إنه ليكون أن يقع للرجل الشيء من هذه الفروق والوجوه في شعر يقوله، أو رسالة يكتبها الموقع الحسن، ثم لا يعلم أنه قد أحسن. فأما الجهل بمكان الإساءة فلا تعدمه.


الصفحة التالية
Icon