فلست تملك إذاً من أمرك شيئاً حتى تظفر بمن له طبع إذا قدحته ورى، وقلب إذا أريته رأى. فأما وصاحبك من لا يرى ما تريه، ولا يهتدي للذي تهديه، فأنت رام معه في غير مرمى، ومعن نفسك في غير جدوى. وكما لا تقيم الشعر في نفس من لا فوق له، كذلك لا تفهم هذا الشأن من لم يؤت الآية التي بها يفهم. إلا أنه إنما يكون البلاء إذا ظن العادم لها أنه أوتيها، وأنه ممن يكمل للحكم، ويصح منه القضاء، فجعل يقول القول لو علم لاستحيا منه. فأما الذين يحس بالنقص من نفسه، ويعلم أنه قد علم علماً قد أوتيه من سواه فأنت منه في راحة، وهو رجل عاقل قد حماه عقله أن يعدو طوره، وأن يتكلف ما ليس بأهل به.
وإذا كانت العلوم التي لها أصول معروفة، وقوانين مضبوطة، قد اشترك الناس في العلم بها، واتفقوا على أن البناء عليها، إذا أخطأ فيه المخطىء ثم أعجب برأيه لم يستطع رده عن هواه، وصرفه عن الرأي الذي رآه، إلا بعد الجهد، وإلا بعد أن يكون حصيفاً عاقلاً ثبتاً إذا نبه انتبه، وإذا قيل: إن عليك بقية من النظر وقف وأصغى، وخشي أن يكون غر فاحتاط باستماع ما يقال له، وأنف من أن يلج من غير بينة، ويتطيل بغير حجة. وكان هذا وصفه يعز ويقل، فكيف بأن ترد الناس عن رأيهم في هذا الشأن، وأصلك الذي تردهم إليه، وتعول في محاجتهم عليه استشهاد القرائح، وسبر النفوس وفليها، وما يعرض من الأريحية عندما تسمع. وكان ذلك الذي يفتح لك سمعهم، ويكشف الغطاء عن أعين ويصرف إليك أوجههم. وهم لا يضعون أنفسهم موضع من يرى الرأي، ويفتي ويقضي وعندهم أنهم ممن صفت قريحته وصح فوقه، وتمت أداته.
فإذا قلت لهم: إنكم قد أتيتم من أنفسكم، ردوا عليك مثله، وقالوا: لا بل قرائحنا أصح، ونظرنا أصدق، وحسنا أذكى. وإنما الآفة فيكم، لأنكم خيلتم إلى نفسكم أموراً حاصل لها، وأوهمكم الهوى والميل أن توجبوا لأحد النظمين المتساويين، فضلاً على من غير أن يكون ذلك الفضل معقولاً. فتبقى في أيديهم حسيراً، لا تملك غير التعجب فليس الكلام إذا بمغن عنك، ولا القول بنافع، ولا الحجة مسموعة، حتى تجد من فيه لك على نفسه. ومن أتى عليك، أبى ذاك طبعه فرده إليك، وفتح سمعه لك، ورفع الحجاب بينك وبينه، وأخذ به إلى حيث أنت، وصرف ناظره إلى الجهة التي إليها أومأت.
فاستبدل بالنفار أنساً، وأراك من بعد الإباء قبولاً. ولم يكن الأمر على هذه الجملة إلا لأنه ليس في أصناف العلوم الخفية، والأمور الغامضة الدقيقة، أعجب طريقاً في الخفاء من هذا. وإنك لتتعب في الشيء نفسك، وتكد فيه فكرك، وتجهد فيه كل جهدك. حتى إذا قلت: قد قتلته علماً، وأحكمته فهماً، كنت الذي لا يزال يتراءى لك فيه شبهة، ويعرض فيه شك، كما قال أبو نواس من الطويل:
ألا لا أرى مثل امترائي في رسم | تغص به عيني، ويلفظه وهمي |
أتت صور الأشياء بيني وبينه | فظني كلا ظن وعلمي كلاعلم |
عجباً له حفظ العنان بأنمل | ماحفظها الأشياء من عاداتها |
ونظير هذا أنك تقول: ليس الخروج في مثل هذا الوقت من عادتي، ولا تقول: ليس خروجي في مثل هذا الوقت من عادتي. وكذلك تقول: ليس ذم الناس من شأني، ولا تقول: ليس ذمي الناس من شأني. لأن ذلك يوجب إثبات الذم ووجوده منك.
ولا يصح قياس المصدر في هذا على الفعل، أعني لا ينبغي أن يظن أنه كما يجوز أن يقال: ما من عادتها أن تحفظ الأشياء، كذلك ينبغي أن يجوز: ما من عادتها حفظها الأشياء. ذاك أن إضافة المصدر إلى الفاعل يقتضي وجوده، وأنه قد كان منه. يبين ذلك أنك تقول: أمرت زيداً بأن يخرج غداً ولا تقول: أمرته بخروجه غداً.
ومما فيه خطأ هو في الخفاء قوله، من البسيط: