وأما الوجه الثالث الذي هو فيه شبيه بالصفة فهو أنه إذا نفي أن يكون بشراً فقد أثبت جنس سواه، إذ من المحال أن يخرج من جنس البشر، ثم لا يدخل في جنس آخر، وإذا كان الأمر كذلك كان إثباته ملكاً تبييناً وتعييناً لذلك الجنس الذي أريد إدخاله فيه، وإغناء عن أن تحتاج إلى أن تسأل فتقول: فإن لم يكن بشراً، فما هو؟ وما جنسه؟ كما أنك إذا قلت: مررت بزيد الظريف كان الظريف تبييناً وتعييناً للذي أردت من بين من له هذا الاسم، وكنت قد أغنيت المخاطب عن الحاجة إلى أن يقول: أي الزيدين أردت؟ ومما جاء فيه الإثبات بإن وإلا على هذا الحد قوله عز وجل: " وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين " وقوله: " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ". فلا ترى أن الإثبات في الآيتين جميعاً تأكيد وتثبيت لنفي ما نفي. فإثبات ما علمه النبي ﷺ وأوحي إليه ذكراً وقرآناً تأكيد وتثبيت لنفي أن يكون قد علم الشعر. وكذلك إثبات ما يتلوه عليهم وحياً من الله تعالى تأكيد وتقرير لنفي أن يكون نطق به عن هوى.
وأعلم أنه ما من علم من علوم البلاغة أنت تقول إنه فيه خفي غامض ودقيق صعب وعلم هذا الباب أغمض وأخفى وأدق وأصعب. وقد قنع الناس فيه بأن يقولوا، إذا رأوا جملة قد ترك فيها العطف: إن الكلام قد استؤنف، وقطع عما قبله، لا تطلب أنفسهم منه زيادة على ذلك. ولقد غفلوا غفلة شديدة.
ومما هو أصل في هذا الباب أنك ترى الجملة، وحالها مع التي قبلها حال ما يعطف، ويقرن إلى ما قبله، ثم تراها قد وجب فيها ترك العطف لأمر عرض فيها، صارت به أجنبية مما قبلها، مثال ذلك قوله تعالى: " الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون " الظاهر كما لا لايخفى يقتضي أن يعطف على ما قبله من قوله: " إنما نحن مستهزئون " وذلك أنه ليس بأجنبي منه، بل هو نظير ما جاء معطوفاً من قوله تعالى: " يخادعون الله وهو خادعهم " وقوله " ومكروا ومكر الله ". وما أشبه ذلك مما يرد فيه العجز على الصدر. ثم إنك تجده قد جاء غيرمعطوف، وذلك لأمر أوجب أن لا يعطف، وهو أن قوله: " إنما نحن مستهزئون " حكاية عنهم أنهم قالوا وليس بخبر من الله تعالى. وقوله تعالى: " الله يستهزىء بهم " خبر من الله تعالى أنه يجازيهم على كفرهم واستهزائهم. وإذا كان كذلك كان العطف ممتنعاً لاستحالة أن يكون الذي هو خبر من الله تعالى معطوفاً على ما هو حكاية عنهم. ولا يجاب ذلك أن يخرج من كونه خبراً من الله تعالى إلى كونه حكاية عنهم، وإلى أن يكونوا قد شهدوا على أنفسهم بأنهم مؤاخذون، وأن الله تعالى يعاقبهم عليه.