وليس كذلك الحال في قوله تعالى: " يخادعون الله وهو خادعهم ". " ومكروا ومكر الله " لأن الأول من الكلامين فيهما كالثاني في أنه خبر من الله تعالى، وليس بحكاية. وهذا هو العلة في قوله تعالى: " وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون. إلا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ". إنما جاء " إنهم هم المفسدون " مستأنفاً مفتتحاً بألا لأنه خبر من الله تعالى بأنهم كذلك. والذي قبله من قوله " إنما نحن مصلحون " حكاية عنهم. فلو عطف للزم عليه مثل الذي قدمت ذكره من الدخول في الحكاية ولصار خبراً من اليهود، ووصفاً منهم لأنفسهم بأنهم مفسدون. ولصار كأنه قيل: قالوا إنما نحن مصلحون، وقالوا إنهم هم المفسدون. وذلك ما لا يشك في فساده. وكذلك قوله تعالى: " وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ". ولو عطف " إنهم هم السفهاء " على ما قبله لكان يكون قد أدخل في الحكاية، ولصار حديثاً منهم عن أنفسهم بأنهم هم السفهاء من بعد أن زعموا أنهم إنما تركوا أن يؤمنوا لئلا يكونوا من السفهاء على أن في هذا أمراً آخر، وهو أن قوله: " أنؤمن " استفهام، ولا يعطف الخبر على الاستفهام فإن قلت: هل كان يجوز أن يعطف قوله تعالى: " الله يستهزىء بهم " على " قالوا " من قوله: " قالوا إنا معكم "، لا على ما بعده؟ وكذلك كان يفعل في " إنهم هم المفسدون " " وإنهم هم السفهاء ". وكان يكون نظير قوله تعالى: " وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ". وذلك أن قوله: " ولو أنزلنا ملكاً " معطوف من غير شك على " قالوا " دون ما بعده؟ قيل إن حكم المعطوف على " قالوا " فيما نحن فيه مخالف لحكمه في الآية التي ذكرت وذلك أن " قالوا " هاهنا جواب شرط. فلو عطف قوله: " الله يستهزىء بهم " عليه للزم إدخاله في حكمه من كونه جواباً، وذلك لا يصح. وذاك أنه متى عطف على جواب الشرط شيء بالواو كان ذلك على ضربين: أحدهما: أن يكونا شيئين يتصور وجود كل واحد منهما دون الآخر، ومثاله قولك: إن تأتني أكرمك أعطك وأكسك.
والثاني: أن يكون المعطوف شيئاً لا يكون حتى يكون المعطوف عليه. ويكون الشرط لذلك سبباً فيه بوساطة كونه سبباً للأول، ومثاله قولك: إذا رجع الأمير إلى الدار استأذنتة وخرجت فالخروج لا يكون حتى يكون الاستئذان، وقد صار الرجوع سبباً في الخروج من أجل كونه سبباً في الاستئذان. فيكون المعنى في مثل هذا على كلامين نحو: إذا رجع الأمير استأذنت وإذا استأذنت خرجت.
وإذ قد عرفت ذلك فإنه لو عطف قوله تعالى: " الله يستهزىء بهم " على " قالوا " كما زعمت كان الذي يتصور فيه أن يكون من هذا الضرب الثاني، وأن يكون المعنى " وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ". فإذا قالوا ذلك استهزأ الله بهم، ومدهم في طغيانهم يعمهون. وهذا وإن كان يرى أنه يستقيم فليس هو بمستقيم، وذلك أن الجزاء إنما هو على نفس الاستهزاء وفعلهم له، وإرادتهم إياه في قولهم إنا آمنا، لا على أنهم حدثوا عن أنفسهم بأنهم مستهزئون والعطف على " قالوا " يقتضي أن يكون الجزاء على حديثهم عن أنفسهم بالاستهزاء لا عليه نفسه. ويبين ما ذكرناه من أن الجزاء ينبغي أن يكون على قصدهم الاستهزاء، وفعلهم له لا على حديثهم عن أنفسهم بإنا مستهزئون أنهم لو كانوا قالوا لكبرائهم: " إنما نحن مستهزئون " : وهم يريدون بذلك دفعهم عن أنفسهم بهذا الكلام، وأن يسلموا من شرهم، وأن يوهموهم أنهم منهم، وإن لم يكونوا كذلك لكان لا يكون عليهم مؤاخذة فيما قالوه من حيث كانت المؤاخذة تكون على اعتقاد الاستهزاء والخديعة في إظهار الإيمان لا في القول: إنا استهزأنا، من غير أن يقترن بذلك القول اعتقاد ونية.
هذا، وهاهنا أمر سوى ما مضى يوجب الاستئناف وترك العطف، وهو أن الحكاية عنهم