بأنهم قالوا: كيت وكيت تحرك السامعين لأن يعلموا مصير أمرهم، وما يصنع بهم، وأتنزل بهم النقمة عاجلاً أم لا تنزل ويمهلون، وتوقع في أنفسهم التمني لأن يتبيين لهم ذلك. وإذا كان كذلك كان هذا الكلام الذي هو قوله: " الله يستهزىء بهم " في معنى ما صدر جواباً عن هذا المقدر وقوعه في أنفس السامعين. وإذا كان مصدره كذلك كان حقه أن يؤتى به مبتدأ غير معطوف ليكون في صورته إذا قيل: فإن سألتم قيل لكم: " الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون وإذا استقريت وجدت هذا الذي ذكرت لك من تنزيلهم الكلام إذا جاء بعقب ما يقتضي سؤالاً منزلته إذا صرح بذلك السؤال كثيراً. فمن لطيف ذلك قوله، من الكامل:
زعم العواذل أنني في غمرة... صدقوا ولكن غمرتي لا تنجلي
لما حكى عن العواذل أنهم قالوا: هو في غمرة. وكان ذلك مما يحرك السامع لأن يسأله فيقول: فما قولك في ذلك؟ وما جوابك عنه؟ أخرج الكلام مخرجه إذا كان ذلك قد قيل له، وصار كأنه قال: أقول صدقوا أنا كما قالوا، ولكن لا مطمع لهم في فلاحي. ولو قال: زعم العواذل أنني في غمرة وصدقوا لكان يكون لم يصح في نفسه أنه مسؤول، وأن كلامه كلام مجيب.
ومثله قول الآخر في الحماسة، من الكامل:
زعم العواذل أن ناقة جندب... بجنوب خبت عريت وأجمت
كذب العواذل لو رأين مناخنا... بالقادسية قلن: لج وذلت
وقد زاد هذا أمر القطع والاستئناف وتقدير الجواب تأكيداً بأن وضع الظاهر موضع المضمر فقال: كذب العواذل، ولم يقل: كذبن. وذلك أنه لما أعاد ذكر العواذل ظاهراً كا ذلك أبين وأقوى لكونه كلاماً مستأنفاً من حيث وضعه وضعاً لا يحتاج فيه إلى ما قبله، وأتى فيه مأتى ما ليس قبله كلام. ومما هو على ذلك قول الآخر، من الوافر:
زعمتم أن إخوتكم قريش... لهم إلف وليس لكم إلاف
وذلك أن قوله: لهم إلف، تكذيب لدعواهم أنهم من قريش. فهو إذاً بمنزلة أن يقول: كذبتم لهم إلف وليس لكم ذلك. ولو قال: زعمتم أن إخوتكم قريش ولهم إلف وليس لكم إلاف، لصار بمنزلة أن يقول: زعمتم أن إخوتكم قريش وكذبتم في أنه كان يخرج عن أن يكون موضوعاً على أنه جواب سائل يقول له: فماذا تقول في زعمهم ذلك وفي دعواهم؟ فاعرفه.
واعلم أنه لو أظهر كذبتم لكان يجوز له أن يعطف هذا الكلام الذي هو قوله: لهم إلف، عليه بالفاء فيقول: كذبتم فلهم إلف وليس لكم ذلك. أما الآن فلا مساغ لدخول الفاء البتة لأنه يصير حينئذ معطوفاً بالفاء على قوله: زعمتم أن إخوتكم قريش، وذلك يخرج إلى المحال من حيث يصير كأنه يستشهد بقوله: لهم إلف. على أن هذا الزعم كان منهم، كما أنك إذا قلت: كذبتم فلهم إلف، كنت قد استشهدت بذلك على أنهم كذبوا فاعرف ذلك. ومن اللطيف في الاستئناف على معنى جعل الكلام جواباً في التقدير قول اليزيدي، من السريع:
ملكته حبلي ولكنه... ألقاه من زهد على غاربي
وقال: إني في الهوى كاذب... انتقم الله من الكاذب
استأنف قوله: انتقم الله من الكاذب، لأنه جعل نفسه كأنه يجيب سائلاً قال له: فما تقول فيما اتهمك به من أنك كاذب؟ فقال: أقول: انتقم الله من الكاذب. ومن النادر أيضاً في ذلك قول الآخر، من الخفيف:
قال لي: كيف أنت؟ قلت: عليل... سهر دائم وحزن طويل
لما كان في العادة إذا قيل للرجل: كيف أنت؟ فقال: عليل، أن يسأل ثانياً فيقال: ما بك؟ وما علتك؟ قدر كأنه قد قيل له ذلك فأتى بقوله: سهر دائم، جواباً عن هذا السؤال المفهوم من فحوى الحال فاعرفه.
ومن الحسن البين في ذلك قول المتنبي، من الوافر:
وماعفت الرياح له محلا... عفاه من حدا بهم وساقا
لما نفى أن يكون الذي يرى به من الدروس والعفاء من الرياح، وأن تكون التي فعلت ذلك وكان في العادة إذا نفي الفعل الموجود الحاصل عن واحد فقيل: لم يفعله فلان أن يقال فمن فعله؟ قدر كأن قائلاً قال: قد زعصت أن الرياح لم تعف له محلاً فما عفاه إذاً؟ فقال مجيباً له: عفاه من حدا بهم وساقا.
ومثله قول الوليد بن يزيد، من الهزج:
عرفت المنزل الخالي... عفا من بعد أحوال
عفاه كل حنان... عسوف الوبل هطال