على أن معاوية بن قرة رضي الله عنه أراد أن يفعل لكنه لم يفعل، خشية أن يجتمع عليه الناس للاستماع. (١) وهذا واضح الدلالة على أن محاكاة الصحابة للنبي - ﷺ - في صوته غير معهودة بين الصحابة رضي الله عنهم إذ لو كانت معهودة لما خشي ذلك، وهو رضي الله عنه لم يفعل، فبقي الأمر على عدم التقليد، وأنه لم يكن من هدي الصحابة رضي الله عنهم. وفيمن بعدهم تتبعت كتب السير، والتراجم، ما أمكن فلم أر تقليد الصوت لدى القراء، عملاً موروثاً، يستعذب القارئ صوت قارئ آخر، فيقلده وهو واقف بين يدي ربه في المحراب ليحرك النفوس بصوت غيره، ويتلذذ السامعون بحسن أدائه فيه.
١٢- وغاية ما وقفت عليه ما في فتاوى العز بن عبد السلام. م سنة ٦٦٠هـ رحمه الله تعالى ونصه ص / ١٢٠:
(مسألة: إمام بمسجد يقرأ قراءة حسنة، فسمعه إنسان فقرأ مثله محاكيا له، ولم يقصد بذلك سوى أن فلاناً يقرأ هكذا فهل هذه غيبة أم لا) الجواب: ليس ذلك بغيبة له، والله أعلم. انتهى. إذا كان الحال كذلك: فاعلم أنه في عصرنا بدت ظاهرة عجيبة، لدى بعض القراء إذ اخذوا في التقليد والمحاكاة على سبيل الإعجاب والتلذذ، وتلقنه الطلاب وهو في دَوِْر التلقي، ثم سرت هذه العادة فَتَكَوَّن منها هذه الظاهرة ((ظاهرة المحاكاة والتقليد في الصوت)) كل بحسب من أعجبه صوته، فعمروا المحاريب بالتقليد، وهم وقوف بين يدي الله تعالى، يؤمون المصلين، ليحرك الإمام نفوس المأمومين بصوت غيره، ويتلذذ السامعون بِحُسن أدائه فيه، بل وصل الحال إلى أن الإمام في التراويح، قد يقلد صوتين، أو ثلاثة، وهكذا، وقد سمعت في هذا عجباً. وصدق أبو الطيب المتنبي :
وَأَسْرعُ مَفْعُولٍ فَعَلْتَ تَغَيُّراً ** تكلف شيء في طِبَاعِكَ ضِده

(١) انظر إلى دقيق ورع الصحابة رضي الله عنهم في البعد عن مواطن الرياء، والشهرة، ووازن بين هذا وبين ما يفعله ((مجوِّدة)) عصرنا من تكلف التقليد، وازدحام الناس على سماعه.


الصفحة التالية
Icon