قوله تعالى :﴿ وَكَذلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ﴾. فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يعني خياراً، من قولهم فلان وسط الحَسَبِ في قومه، إذا أرادوا بذلك الرفيع في حسبه، ومنه قول زهير :

هُمْ وَسَطٌ يَرْضَى الإلهُ بِحُكْمِهِمْ إذَا نَزَلَت إِحْدَى اللَّيالي بِمُعَظَّمِ
والثاني : أن الوسط من التوسط في الأمور، لأن المسلمين تَوَسَّطُوا في الدين، فلا هم أهل غلوٍّ فيه، ولا هم أهل تقصير فيه، كاليهود الذين بدَّلوا كتاب الله وقتَّلوا أنبياءهم وكَذَبوا على ربهم، فوصفهم الله تعالى بأنهم وسط، لأن أحب الأمور إليه أوسطها.
والثالث : يريد بالوسط : عدلاً، لأن العدل وسط بين الزيادة والنقصان، وقد روى أبو سعيد الخدري، عن النبي ﷺ في قوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمَّةً وَسَطاً ﴾ أي عَدْلاً.
﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : لتشهدوا على أهل الكتاب، بتبليغ الرسول إليهم رسالة ربهم.
والثاني : لتشهدوا على الأمم السالفة، بتبليغ أنبيائهم إليهم رسالة ربهم، وهذا مروي عن النبي ﷺ، أن الأمم السالفة تقول لهم : كيف تشهدون علينا ولم تشاهدونا، فيقولون أعْلَمَنَا نبيُّ الله بما أُنْزِلَ عليه من كتاب الله.
والثالث : أن معنى قوله :﴿ لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ﴾ أي لتكونوا مُحْتَجِّينَ على الأمم كلها، فعبر عن الاحتجاج بالشهادة، وهذا قول حكاه الزجاج.
﴿ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾ فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : يكون الرسول شهيداً على أمته أنْ قد بلّغ إليهم رسالة ربه.
والثاني : أنّ معنى ذلك أنْ يكون شهيداً لهم بإيمانهم، وتكون ( عليهم ) بمعنى ( لهم ).
والثالث : أن معنى قوله :﴿ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُمْ شَهِيداً ﴾ أي مُحْتَجّاً.
﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا ﴾ أي بيت المقدس، ﴿ إلاّ لِنَعَلَمَ مَن يَتَّبعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ فإن قيل : الله أعلم بالأشياء قبل كونها، فكيف جعل تحويل القِبْلة طريقاً إلى علمه؟ قيل : في قوله :﴿ إلاَّ لِنَعْلَمَ ﴾ أربعة تأويلات :
أحدها : يعني إلا ليعلم رسولي، وحزبي، وأوليائي؛ لأن من شأن العرب إضافة ما فعله أتْباعُ الرئيس إليه، كما قالوا : فتح عمرُ بنُ الخطاب سوادَ العراق وجبي خَرَاجَهَا.
والثاني : أن قوله تعالى :﴿ إلاَّ لِنَعْلَمَ ﴾ بمعنى : إلا لنرى، والعرب قد تضع العلمَ مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم، كما قال تعالى ﴿ ألَمْ تَرَ كَيفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأصْحَابِ الْفِيلِ ﴾ [ الفيل : ١ ] يعني : ألم تعلم.
والثالث : قوله تعالى :﴿ إلاَّ لِنَعْلَمَ ﴾ بمعنى إلا لتعلموا أننا نعلم، فإنّ المنافقين كانوا في شك من علم الله بالأشياء قبل كونها.
والرابع : أن قوله :﴿ إلاَّ لِنَعْلَمَ ﴾ بمعنى إلا لنميز أهل اليقين من أهل الشك، وهذا قول ابن عباس.
قوله تعالى :﴿ مَن يَتَّبعُ الرَّسُولَ ﴾ بمعنى فيما أمر به من استقبال الكعبة ﴿ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ بمعنى : ممن يَرْتَدُّ عن دينه، لأن المرتد راجع مُنْقَلِب عما كان عليه، فشبهه بالمُنْقلِب على عقبه، لأن القبلة لمَّا حُوِّلَتْ ارْتَدَّ من المسلمين قَوْمٌ، ونافق قوم، وقالت اليهود : إن محمداً قد اشتاق إلى بلد أبيه، وقالت قريش : إن محمداً قد علم أننا على هدى وسَيُتَابِعُنَا.


الصفحة التالية
Icon