قوله تعالى :﴿ إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَة فما فوقها ﴾.
في قوله :﴿ لاَ يَسْتَحْيِي ﴾ ثلاثةُ تأويلاتٍ :
أحدها : معناه لا يترك ( ١٢١ ).
والثاني :[ يريد ] لا يخشى.
والثالث : لا يمتنع، وهذا قول المفضل.
وأصل الاستحياء الانقباض عن الشيء والامتناع منه خوفاً من موَاقَعَةِ القبح.
والبعوضة : من صفار البقِّ سُميت بعوضة، لأنها كبعض البقَّة لصِغَرِها.
وفي قوله :﴿ مَا بَعُوضَةً ﴾ ثلاثةُ أوجُهٍ :
أحدها : أن « ما » بمعنى الذي، وتقديره : الذي هو بعوضة.
والثاني : أن معناه : ما بين بعوضة إلى ما فَوْقها.
والثالث : أن « ما » صلةٌ زائدةٌ، كما قال النابغة :

قَالَتْ أَلاَ لَيْتُمَا هذَا الْحَمَامُ لَنَا إِلَى حَمَامَتِنَا وَنِصْفُهُ فَقَدِ
﴿ فَمَا فَوْقَهَا ﴾ فيه تأويلان :
أحدهما : فما فوقها في الكبر، وهذا قول قتادة وابنِ جُريجٍ.
والثاني : فما فوقها في الصغر، لأن الغرض المقصود هو الصغر. وفي المثل ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه وارد في المنافقين، حيث ضَرَبَ لهم المَثَلَيْنِ المتقدِّمين : مثَلَهُمْ كمثل الذي استوقد ناراً، وقوله : أو كصيِّب من السماء، فقال المنافقون : إن الله أعلى مِنْ أن يضرب هذه الأمثال، فأنزل الله تعالى :﴿ إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا ﴾، وهذا قول ابن مسعود وابن عباس.
والثاني : أن هذا مثلٌ مبتدأ ضَرَبَهُ الله تعالى مثلاً للدنيا وأهلها، وهو أن البعوضة تحيا ما جاعت، وإذا شبعت ماتت، كذلك مثل أهل الدنيا، إذا امتلأوا من الدنيا، أخذهم الله تعالى عند ذلك، وهذا قول الربيع بن أنس.
والثالث : أن الله تعالى حين ذكر في كتابه العنكبوت والذباب وضربهما مثلاً، قال أهل الضلالة : ما بال العنكبوت والذباب يذكران، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهذا قول قتادةَ، وتأويل الربيع أحسن، والأولُ أشبَهُ.
قوله تعالى :﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ﴾ فيه ثلاثةُ تأويلات :
أحدها : معناه بالتكذيب بأمثاله، التي ضربها لهم كثيراً، ويهدي بالتصديق بها كثيراً.
والثاني : أنه امتحنهم بأمثاله، فَضَلَّ قوم فجعل ذلك إضلالاً لهم، واهتدى قوم فجعله هدايةً لهم.
والثالث : أنه إخبار عمَّنْ ضلَّ ومن اهتدى.
قوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ﴾.
أما النقض، فهو ضد الإبرام، وفي العهد قولان :
أحدهما : الوصيَّة.
والثاني : الموثق.
والميثاق ما وَقَعَ التوثق به.
وفيما تضمنه عهده وميثاقه أربعة أقاويل :
أحدها : أن العهد وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعة، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصية في كتبه، وعلى لسان رسله، ونقضهم ذلك بترك العمل به.
والثاني : أن عهده ما خلقه في عقولهم من الحجة على توحيده وصدق رسله بالمعجزات الدالة على صدقهم.


الصفحة التالية
Icon