قوله تعالى :﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾، في قوله :﴿ وَإِذْ ﴾ وجهان :
أحدهما : أنه صلة زائدة، وتقدير الكلام : وقال ربك للملائكة، وهذا قول أبي عبيدة، واستشهد بقول الأسود بن يعفر :

فَإِذَا وَذلِكَ لاَ مَهَاةَ لذِكْرِهِ وَالدَّهْرُ يَعْقُبُ صَالِحاً بِفَسَادِ
والوجه الثاني : أن « إذ » كلمة مقصورة، وليست بصلة زائدة، وفيها لأهل التأويل قولان :
أحدهما : أن الله تعالى لما ذكَّر خلقه نِعَمَهُ عليهم بما خلقه لهم في الأرض، ذكّرهم نِعَمَهُ على أبيهم آدَمَ ﴿ إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ﴾، وهذا قول المفضَّل.
والثاني : أن الله تعالى ذكر ابتداء الخلق فكأنه قال : وابتدأ خلقكم ﴿ إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ﴾، وهذا من المحذوف الذي دَلَّ عليه الكلام، كما قال النمر بن تَوْلَبَ ( ١٢٧ ) :
فَإِنَّ الْمَنَّيةَ مَنْ يَخْشَهَا فَسَوفَ تُصَادِفُهُ أَيْنَمَا
يريد : أينما ذهب.
فأما الملائكة فجمع مَلَكٍ، وهو مأخوذ من الرسالة، يقال : ألِكِني إليها أي أرسلني إليها، قال الهذلي :
ألِكْنِي وَخَيْرُ الرَّسُو لِ أَعْلَمُهُمْ بنواحِي الخَبَرْ
والألوك الرِّسالة، قال لبيد بن ربيعة :
وَغُلاَمٍ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ بأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَألْ
وإنما سميت الرسالة ألوكاً لأنها تُؤْلك في الفم، والفرس يألك اللجام ويعلكه، بمعنى يمضغ الحديد بفمه.
والملائكة أفضل الحيوان وأعقل الخلق، إلا أنهم لا يأكلون، ولا يشربون، ولا ينكحون، ولا يتناسلون، وهم رسل الله، لا يعصونه في صغير ولا كبير، ولهم أجسام لطيفة لا يُرَوْنَ إلا إذا قوَّى الله أبصارنا على رؤيتهم.
وقوله تعالى :﴿ إِنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً ﴾ اختلف في معنى ﴿ جاعل ﴾ على وجهين :
أحدهما : أنه بمعنى خالق.
والثاني : بمعنى جاعل، لأن حقيقة الجَعْل فِعْلُ الشيء على صفةٍ، وحقيقة الإحداث إيجاد الشيء بعد العدم.
و ﴿ الأرض ﴾ قيل : إنها مكة، وروى ابن سابط، أن النبي ﷺ قال :« دُحِيَت الأرضُ من مكةَ » ولذلك سميت أم القرى، قال : وقبر نوح، وهود، وصالح، وشعيب بن زمزم، والركن، والمقام.
وأما « الخليفة » فهو القائم مقام غيره، من قولهم : خَلَفَ فلانٌ فلاناً، والخَلَفُ بتحريك اللام من الصالحين، والخَلْفُ بتسكينها من الطالحين، وفي التنزيل :﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ ﴾ [ مريم : ٥٩ ]، وفي الحديث :« ينقل هذا العِلْمَ من كل خَلَفٍ عُدُولُهُ ». وفي خلافة آدم وذريته ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه كان في الأرض الجِنُّ، فأفسدوا فيها، سفكوا الدماء، فأُهْلِكوا، فَجُعِل آدم وذريته بدلهم، وهذا قول ابن عباس.
والثاني : أنه أراد قوماً يَخْلُفُ بعضهم بعضاً من ولد آدم، الذين يخلفون أباهم آدم في إقامة الحق وعمارة الأرض، وهذا قول الحسن البصري.
والثالث : أنه أراد : جاعل في الأرض خليفةً يخْلُفُني في الحكم بين خلقي، وهو آدم، ومن قام مقامه من ولده، وهذا قول ابن مسعود.


الصفحة التالية
Icon