وعلى الحفظ والتحفظ كان الصدر الأول ومن بعدهم، فربما قرأ الأكبر منهم على الأصغر منه سنا وسابقة، فلم يكن الفقهاء منهم ولا المحدثون والوعاظ يتخلفون عن حفظ القرآن والاجتهاد على استظهاره، ولا المقربون منهم عن العلم بما لم يسعهم جهله منه، غير أنهم نسبوا إلى ما غلب عليهم من المعرفة بحروفه أو العلم بغيرها، إلى أن خلفهم الخلف الذين مضى ذكرهم، فاتهم في طراتهم وحداثتهم طلب حفظ القرآن وفي أوانه، ولحقهم العجز والبلادة على سنهم، من غير أن كان لهم أنس بتلاوة كتاب من ربهم، ولا بلطيف خطابه وشريف عتابه، فعوقبوا لحرمانه وإيثار الجدل والنطاح اللذين يؤديان إلى تفريق الأمة وتمقيت بعضهم إلى بعض، وصار ذلك أروج لهم في مجالس الظلمة والمسلطين الفجرة فمضوا بذلك وأسند بجوابه، والله زين لهم ذلك فقال عز وجل (كَذَلِكَ زَيَّنّا لِكُلِ أُمَّةٍ عَمَلَهُم)، ومع ذلك فإنهم لا يدخلون حفرهم غلا تحسرا وتكمدا وتأسفا على ما فاتهم من بركة حفظ كتاب الله الكريم، ولا يظهر ذلك عليهم إلا عند الطعن في السن أو الإشراف على الفوت، أو التغرغر بالموت، لكنهم في الحال يستنزرون حفظ القرآن، ويزرون بأهله ويلقبونهم بما تقدم من النبز. فأما من لم يتحل بالعلم بل ترسم بالنسك ثم أزرى بأهل القرآن ونبزهم بالقراء فإنه بربخ لا قيمة له، فربما كان ذلك منه بلادة وعجزا أو تعديا وجهلا، فليتق الله امرؤ بعد عجزه عمن حفظ كتاب الله، ولا يفترن غيره فإنه لا يأمن أن يصير كمن كفر به وصد عنه، وقد قال الله عزوجل في ذم قوم صدوا عنه وهجروه، فقال عز من قائل إخبارا عنهم: (لَقَد أَضَلَّني عِنِ الذِكرِ بَعدَ إِذ جاءَني)، وقال تعالى: (وَقالَ الرَّسولُ يارَبِّ إِنَّ قَومي اتَخَذوا هَذا القُرءانَ مَهجوراً).
ولا ينسين بعدما تعلمه أو شيئا منه، فإن الله تعالى يقول: (قالَ كَذَلِكَ أَتَتكَ ءَاياتُنا فَنَسَيتَها وَكَذَلِكَ اليَومَ تُنسى) فهذه الآي وإن كن على الخصوص للكفار فإن ظاهر تلاوتهن على العموم، فمن رغب عن حفظ القرآن وزهد غيره فيه، أو نسي بعدما تعلمه، فكأنه أريد بما مضى وخوطب به، على أنه قد وردت أخبار عن النبي ﷺ في الوعيد والتوبيخ فيمن نسيه من المسلمين بعدما تعلمه، فمن ذلك: ما حدثني به والدي أبو العباس أحمد بن الحسن الرازي الحافظ نزيل مكة - رحمه الله بمكة حرسها الله - حدثنا أبو علي محمد بن أحمد الصواف، نا يوسف بن يعقوب، نا عمرو بن مرزوق، نا شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن عيسى بن لقيط، عن رجل من أهل الشام: عن سعد بن عبادة: أن النبي ﷺ قال: (ما من رجل تعلم القرآن، ثم نسيه إلا لقي الله أجذم).
وأخبرنا أبو القاسم جعفر بن عبد الله بن يعقوب بن فناكي العدل الروياني نزيل الري، حدثنا أبو بكر محمد بن هارون الروياني الحافظ، نا أبو الربعي السمتي، ثنا أبو عوانة وضاح بن عبد الله، ثنا عاصم بن أبي النجود، عن أبي وائل: عن عبد الله قال: ما للمرء أو لأحدكم أن يقول: نسيت آية كيت وكيت بل هو نسي، وذكر الحديث.
وحدثنا أبو طاهر محمد بن محمد الزيادي الفقيه بنيسابور، نا أبو عثمان عمرو بن عبد الله البصري الزاهد، نا أبو أحمد محمد بن عبد الوهاب، أنا أحمد بن أبي طيبة، عن إبراهيم بن طهمان، عن منصور عن أبي وائل: عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بئسما لأحدكم يقول: نسيت آية كيت وكيت، بل هو نُسي، استذكروا القرأن فإنه أشد تفصيا من صدور الرجال من الناقة من عقلها).
وأخبرنا ابن فناكي، نا الروياني، نا محمد بن إسحاق، نا عبد الله بن صالح، قال: حدثني موسى بن علي بن رباح، عن أبيه: عن عقبة بن عامر: أن رسول الله ﷺ قال: (تعلموا كتاب الله وتعاهدوه وأفشوه وتغنوا به، فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتا من المخاض في العقل).
وأخبرني أبو الحسن محمد بن القاسم الأبرقوهي، ثنا أبو بكر محمد بن إسحاق بن إبراهيم معبد البخاري، ثنا مزيد بن عبد الله المصري، ثنا حاجب بن سليمان المنبجي، نا وكيع بن الجراح، نا سفيان، عن محمد بن المنكدر.