عن جابر بن عبد الله: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (عرضت علي أجور أمتي حتى القذاة تخرجها من المسجد، وعرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنبا أعظم من آية أو سورة أوتيها ثم نسيها).
فصل: فإن قال قائل: هل تعين فرض حفظ جميع القرأن على أعيان جماعة المكلفين أم لا؟.
والجواب: إنه لم يتوجه ذلك على كل واحد منهم فرضا، وذلك لأن الله عز وجل أرءف بعباده من أن يكلفهم ما لا طاقة لعامتهم به، وقدن قال رسول الله ﷺ (بعثت بالحنيفية السهلة السمحة) فلو كلفوا على العموم لعجز الأكثر عنه لأن القرأن أعظم شانا وأمنع جانبا من أن يتأتى حفظه لكل إنسان أو يتسر بكل لسان، أو ينطلق به، أو يطيقه كل أحد، أو يحيط به كل حفظ، أو يحتمله كل سن، ألا ترى أن الجزء الذي منه توجه فرضه على كل مكلف، وهو الفاتحة في الأكثرةب وآيها أعتقد هو جزء من ثلاثة آلاف وثمانمائة وسبعين جزءا، وكثير على عدد الكلم قد أعيا عامة الأمة تأدية على حد الواجب قديما وحديثا، وتفاةتت بقراءته درجاتهم، واختلفت على إقامته ألسنتهم وطباعهم، وكثرت لتجويده على النحو المرضي رياضاتهم، حتى أنه قد يتخلف كثير من الفضل عن إمامة الصلاة لقصورهم عنه إقامة على سواء الصواب، بتقدم المفضولين عليهم فيها، لإقامتهم إياه على حد الواجب، أو أجود ممن أُخر عنها، فإذا كان هذا دأبهم على حد الواجب، أو أجود ممن أخر عنها، فإذا كان هذا دأبهم مع الجزء اللطيف الذي كلفوا منه فكيف تراهم كانوا أن لو كلفوا جميعه على الأعيان مع عزته وصعوبته وكثرة متشابهه، ومشكله، واختلاف حركاته، وسكونه، ونقطه، وإعجامه، وقد قال الله عز وجل: (وَلقَد يَسَرنا القُرءانَ لِلِذِكرِ فَهَل مِن مُدَّكِر) (فَإِنَّما يَسَّرناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوماً لُّدّاً).
وكان مقاتل بن سليمبان يقول: لولا أن الله تعالى يسره ما استطاع أحد أن يتكلم بكلام الرحمن.
لكن الله عز وجل وإن لم يكلفهم جميعه على الأعيان لما فيه من المشقة والإمتناع عن الأكثر، فإنه عز وجل لم يحب من جميعهم إلا حفظه طواعية منهم، أو الجد والاجتهاد فيه إلى تصرم الأجال، وإبلاء العذر عند الله عز وجل للعجز، بدليل ما تقدمنا به من الوعيد لمن نسي شيئا منه بعدما تعلمه، إذ الوعيد من الله لم يرد إلا في ترك الفرائض أوف يما يجري مجريها، ومن وجوه آُخر، وسأذكر طرفا من ذلك على الوجز ما ينبه على ما وراءه، فلعله قد يحث بعض المتوانين على إتقانه حفظا، أو يحض المستهترين به على إحسانه لفظا، أو يحمل المستظهرين إياه على الاستكثار منه تدبرا ودرسا، أو يقصر من يزهد في حفظه غيرهس، أو يفتر، إما قصورا وإما جهلا.
فمنها: ما لزم الأمة من الاقتداء برسول الله ﷺ في جلي أمر الشرع وخفيه، قولا وفعلا، على الوجوبد أو الندب إلى أن يقوم دليل على أنه كان - عليه السلام - مخصوصا به من قوله أو فعله، فلما وجدنا أن النبي ﷺ كان حافظا بجميع ما نزل عليه من القرآن، ومأمورا بقراءته، حتى أنه - عليه السلام - من شدة تمسكه بحفظه كان يعرض على جبريل - عليهما السلام - في كل سنة مرة واحدة، وفي السنة التي قبض فيها عرض عليه - عليهما السلام - مرتين، وكان يعرض على أصحابه ويعرضون عليه، ويعجل به ليستكثر منه، لئلا ينسى ولحرصه عليه، فنهي عنه بقوله تعالى: (وَلا تَعجَل بِالقرءَانِ مِن قَبلِ أَن يُقضى إِليكَ وَحيُهُ)، وبقوله عز وجل: (لا تُحَرِك بِهٍِ لِسانَكَ لِتَعجَلَ بِهِ)، وأمر بالترتيل وأمن مما كان يصده عن ذلك، وهو خشية النسيان والتفلت منه، بقوله تعالى: (سُنُقرِئُكَ فَلا تَنسى) علمنا أن الأمة لزم حفظه مع الإمكان وجوبا، إلا عن عذر بين، وغلا فقد كان لهم في رسول الله أسوة حسنة استحبابا وندبا.