و لذلك صور قد ذكرت بعضها في غير هذا الموضع، و الذي يختص بهذا الموضع هو أن الله - عز وجل - قد يعلم أن هذا الشيء الذي دلت الآية بعمومها على أنه حلال، و بينت آية أخرى أنه حرام، يعلم سبحانه أن الحكمة لا تقتضي تحريم ذلك الشيء على هذا الشخص، فيسره سبحانه قدر له أن يسمع الآية العامة، ولا يسمع الآية الأخرى، وهو وإن كان مخطئا بالنظر إلى الحكم الشرعي، فهو مصيب بالنظر إلى الحكم الذي علم الله - عز وجل - أنه أنسب به، و لا يأتي مثل هذا في الكفر.
و اعلم أن المؤولين يكابرون، و المكابرة لا علاج لها إلا الكي، ولكن جماعة من متبحريهم أنفوا من المكابرة ووقعوا في شرمنها ؛ لأنهم أصروا على شبهاتهم الفلسفية، ثم قال بعضهم : إن المقصود من الشريعة هو الإصلاح حال البشر حتى يمتثلوا الأمر و يجتنبوا النهي، و إنما ضمت من العقائد ما يتوقف ذلك عليه، و أما ما عدا ذلك فإنما جاءت بما يتوافق اعتقاد غالب الناس و إن كان خطأ في نفسه ! و إنما فعلت ذلك لئلا تصد الناس عن قبول الشريعة إذا جاءت بما يخالف عقائدهم !
قالوا: فجاءت بأن الله - عز وجل - مستو على عرشه فوق سماواته، و بأن له وجها، و يدا، وقدما، وغير ذلك مما هو عندهم من خواص الأجسام!
قالوا : لأن غالب الناس ـ بل كلهم إلا من تغلغل في المعقولات ـ لا يصدقون بموجود قائم بذاته، ليس بجسم، و لا في جهة !
وعند هؤلاء أن عامة الصحابة و التابعين، وغالب الأمة مخطئون في اعتقادهم، يلزمهم القول بحدوث الحق - عز وجل - ونقصه تبارك وتعالى، و لكن الشريعة أقرتهم على ذلك ؛ فليسوا بكفار، ولا فساق في حكم الشرع.
(١/١٧)