ووجه آخر، وهو : أنه كان في أصحاب رسول الله - ﷺ - جماعة من أهل الذكاء و الفطنة، و سلامة العقل يلازمون النبي - ﷺ - حضرا و سفرا، ويصدقونه في كل ما يقول ؛ أفما كان ينبغي أن يبوح لهم بالحقيقة، ويأمرهم أن يبوحوا بها لمن وثقوا بذكائه و فطنته، وهكذا يتسلسل هذا الأمر في كبار العلماء في كل قرن، فما بالنا نجد كبار العلماء ـ من الصحابة و التابعين فمن بعدهم ـ هم أشد الناس بعدا عن هذا الإعتقاد، وعامة من خاض في ذلك هم ممن لم ينشأ على العلم، ولا لازم العلماء، ولا تبحر في الكتاب والسنة، وإنما اعتمد الجعد بن درهم، وجهم بن صفوان، و أشباههم ممن لا تعرف له عناية بالعلوم الدينية، و لا ملازمة لأئمتها، فقام الأئمة المشهورون بالعلم وملازمة أهل العلم فبدعوا هؤلاء، وضللواهم، وكفروهم، كما هو معروف.
فإن قال قائل : لعل النبي - ﷺ - أوصاهم بالكتمان ! قيل له ـ مع العلم ببطلان قوله ـ : وهل كان الكتمان فرضا، حتى إذا سمعوا من يذكر الحق ضللوه، وكفروه ؟
فإن قال : نعم!
قيل : فهل كان ذلك حقا أم باطلا ؟
فإن قال : بل حقا!
قيل له : فأنت و أئمتك على هذا مبطلون، ضالون، مضلون، محاربون لله و رسوله !
و اعلم أن من هؤلاء من كابر أيضا، و منهم من رأى أن المكابرة لا تجدي ففر إلى ما هو أخبث و أخبث، فقال : إن الأنبياء أناس فضلاء أخيار أرادوا إصلاح البشر، و صفت نفوسهم إلى درجة أنهم صاروا يتوهمون أنهم يسمعون كلام الله تعالى و ملائكته، و إنما ذلك تخيلا محضا!! غير أن نفوسهم لما كانت طاهرة كانت تتخيل ما يناسب ما يريدونه من الإصلاح بحسب معرفتهم، و كانوا يعتقدون ما أخبروا به، و يرون أ، ه الحق !!
(١/١٩)