و أنت إذا كنت قد وقفت على بعض الكتب المطولة في الفلسفة وتدبرتها تحققت هذا المعنى، و لا تكاد تجد شبهة عقلية قد قررها أحدهم على أنها برهان قاطع إلا وجدت غيره قد نقضها، ثم يجيء ثالث فيدفع هذا النقض، فيجيء رابع فيرد ذلك الدفع، و هكذا.
حجج تهافت كالزجاج تخالها...... حقا و كل كاسر مكسور
ثم اعلم أن أعظم ما يستندون إليه هو الاستقراء ؛ فيستقرئون ما يدخل تحت حواسهم حتى تنتظم لهم مقدمة كلية بالنسبة إلى ما استقرؤوه، ثم يزعمون أنه لا يخرج موجود عن تلك الكلية، و ذلك أمر بديهي البطلان ؛ فإنهم يقولون : الحيوان كله يحرك فكه الأسفل إلا التمساح، فلو فرضنا أنهم لم يروا التمساح و لا سمعوا به – كأن كان في أمريكا فبل اكتشافها – فهذا الاستقراء يكون في زعمهم برهانا قاطعا على أنه لا يوجد حيوان يحرك فكه الأعلى ! و هم يبالغون بزعمهم في نفي مشابهة الرب - عز وجل - لشيء من خلقه، ثم يحكمون عليه بما استقرؤوه من خلقه.
و من أعظم بلايا العقل دعواه أنه لا يتعالى عن إدراكه شيء، فكثيرا ما ينظر فإذا لم يدرك جحد، و لاسيما عقول هؤلاء القوم الذين تسرب إليهم تقديس الفلاسفة و أهل الريب في النبوة على تفاوتهم فبه، و مثل ذلك مثل نفر من الناس فيهم رجل يرى أنه أحدهم نظرا، فيرى آ خر منهم فيخبر أصحابه، فيترآه ذلك الرجل فلا يراه، فيبادر بتكذيب القائل "إني أراه"، قائلا : لو كان الهلال طالعا لرأيته ؛ لأنني أحد الجماعة نظرا !
و هذا من أعظم غلط العقل، فتراه ينفي وجود بعض الأشياء، وينكر بعض الأحكام، و يرد كثيرا من الأخبار ؛ لأنه لم يدركها، أو لم يدرك وجه صحتها أو مطابقتها للحكمة، ولولا هذا الخطأ و مثله لم يكد يغلط عاقل و لا يضل، و لا استحل مسلم أن يذم المعقولات، و يحذر من شدة الاعتماد، عليها فإن الدين لا يقوم إلا على العقل كما قدمنا.
(١/٢٦)


الصفحة التالية
Icon