وقد كان عبد الملك بن مروان و أبو جعفر المنصور العباسي من كبار العلماء و هما طاغيتان، وكذلك الواقدي و الشاذكوني، و محمد بن حميد الرازي، و هؤلاء رماهم أئمة الحديث بأنهم كانوا يكذبون على رسول الله - ﷺ -، و أمثالهم كثير، و من العلماء من هو دون هؤلاء في العلم و لكنه معدود من الراسخين.
فالرسوخ إذن حال قلبية ؛ كما قال النبي - ﷺ - في الغنى :" ليس الغنى عن كثرة العرض، و لكن الغنى غنى النفس " ؛ فكذلك تقول : ليس الرسوخ عن كثرة العلم، ولكن الرسوخ رسوخ الإيمان في القلب، ويوشك أن يكون هو اللب كما في قوله تعالى :﴿ و ما يتذكر إلا أولو الألباب ﴾
و إنه ليشم روائح الرسوخ من قوله :﴿ ءامنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب - ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و هب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب - ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد ﴾.
فالراسخ دائم الخوف و الخشية من ربه - عز وجل -، مسيء للظن بنفسه، فكم من راسخ لا يرى أنه راسخ، و كم من زائغ يرى أنه من أرسخ الراسخين ؟
فالخائف الخاشع المسيء الظن بنفسه جدير بأن لا يستخفه ما عنده من العلم على الخوض فيما ليس له به علم، و على البحث فيما لم يكلف البحث فيه، و هو من موارد الخطر، و مزالق النظر.
(١/٣٤)
هذا لو كان يمكن العلم به ؛ فكيف إذا كان مما لا سبيل إلى العلم به ؟! و إنما الزائغ الجريء على ربه، المتكل على عقله، الفرح بما عنده من العلم هو الجدير بأن يتعاطى الخوض في كل شيء، و تحمله ثقته بنفسه، وأمنه مكر ربه، و دعواه أنه لا يتعانى عن فهم شيء، و حرصه على أن يطير ذكره في الناس، و كبره عن أن يعترف بالجهل.