فأطلق الحديث و لم يقيده ؛ لكنه قد علم إخراج الإتباع على معنى التلاوة و الإيمان، و بقي الإتباع على ابتغاء التأويل زيغ، كما أن ابتغاء الفتنة زيغ، و لم يقيده - ﷺ - بعدم الرسوخ، فعلم أن كلا من ابتغى تأويله فهو زائغ و ليس براسخ، و أكد هذا بما يفهم من الحديث : أن النبي - ﷺ - كان واثقا بأصحابه الذين خاطبهم أنهم لا يتبعون المتشابه، و إنما حذرهم ممن نشأ بعده، و هم - رضي الله عنهم - أولى بالرسوخ من غيرهم ؛ فعلم أن الراسخ لا يتبع المتشابه أصلا إلا على معنى تلاوته و الإيمان به.
فإن قلت : المتشابه في اختيارك هو ما اشتبه معناه، بأن يتساوى المعنيان أو الثلاثة في الإحتمال، و هذا هو المجمل ؛ فهل يدخل فيه ما اشتبه معناه أو معانيه، و لكنه يمكن ترجيح أحدها بدليل آخر ؟
قلت : كلا، ليس هذا بمتشابه، بل هذا مما يعلم تأويله الراسخ وغيره، و مما أمرنا بالتدبر فيه و النظر في تأويله.
فإن قلت : فالمتشابه عندك ما اشتبه معناه، بحيث لا يوجد دليل يبينه ؟
قلت : نعم !
فإن قلت : و ما فائدة إنزال مثل هذا في القرآن، و القرآن إنما نزل هدى للعالمين، و أمرنا بتدبره مطلقا ؟!
قلت : ينبغي أولا أن تعين المتشابه، ثم أجيب عن هذا السؤال إن شاء الله تعالى.
فأقول : مشتبه المعنى على أنواع، كما فصله في "المفردات " :
الأول : المتشابه من جهة اللفظ، و ذكر له خمسة أضراب :
الكلمة الغريبة، كالأب.
المشتركة، كالقرء.
(١/٣٥)
ما اختصر فيه الكلام، نحو :﴿ و إن خفتم ألا تقسطوا في اليتمى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ﴾.
ما بسط فيه، نحو ﴿ ليس كمثله شيء ﴾.
ما يشتبه في نظم الكلام، مثل :﴿ أنزل على عبده الكتب و لم يجعل له عوجا - قيما ﴾، فيتوهم السامع أن ﴿ قيما ﴾ نعت لـ ﴿ عوجا ﴾، و إنما هو حال من ﴿ الكتب ﴾.