وبيّن الحافظ في الفتح أن الذي أدرجه في الحديث وهم، والصواب أنه من قول الزهري، و نقل الحكم بالإدراج عن النسائي و موسى بن هارون و غيرهما، ثم قال :" قال الطبري : ذهبت طائفة إلى جواز الكذب لقصد الإصلاح، وقالوا : إن الثلاث المذكورة كالمثال، و قالوا : الكذب المذموم إنما هو فيما فيه مفسدة، أو ما ليس فيه مصلحة. وقال آخرون : لا يجوز الكذب في شيء مطلقا، و حملوا الكذب المراد هنا على التورية والتعريض، كمن يقول للظالم : دعوت لك أمس، وهو يريد قوله : اللهم اغفر للمسلمين ".
ثم قال الحافظ :" و اتفقوا على جواز الكذب عند الاضطرار، كما لو قصد ظالم قتل رجل – وهو مختف عنده – فله أن ينفي كونه عنده، و يحلف على ذلك، ولا يأثم، و الله أعلم ".
أقول : مهما خلا الكذب عن المفسدة، فلا يكاد يخلو عن إفقاد صاحبه ثقة الناس بكلامه، و حرمانهم الاستفادة من خيره بقية عمره، فهو يستفيد من أخبارهم، و لا يثقون به فيستفيدوا من خبره، و لعل سقوط ثقتهم بخبره يوقعهم في مضار و يصرف عنهم مصالح مما يخبرهم به صادقا فلا يصدقونه.
و لو أبيح الكذب في الإصلاح، فكذب المصلح يوشك أن يعرف كذبه فتسقط الثقة به.
و افرض أنه علم عذره، فإنها على ذلك تسقط الثقة به في الإصلاح، فإذا قال خيرا أو نمى خيرا بعد ذلك لم يصدق و إن كان صادقا، لأنه عرف استحلاله الكذب في ذلك و مع هذا فإنها تزلزل الثقة بخبره في غير الإصلاح أيضا، إذ يقول الناس : لعله يرى خبره هذا إصلاحا فيستحل الكذب فيه !
(١/٤)