و قريب من هذا حال الكذب في الحرب، و كذب كل من الزوجين على الآخر، وأنا نفسي كانت إذا سألتني زوجتي ما لا أريد أقول لها: أفعل إن شاء الله ! قاصدا التعليق، فلما قلت ذلك ثلاث مرات أو أزيد فطنت للقضية ! فصارت لا تثق بوعدي إذا قلت سأفعل إن شاء الله، فوقعت في مشكلة، لأنني أحتاج إلى أن أقول :" إن شاء الله " في كل وعد وإن أردت الوفاء به، للأمر الشرعي بذلك.
و قولك للظالم " دعوت لك أمس " فيه مفاسد، لأنه إن كان يحسن الظن بك، و حمل قولك على ظاهره جرّأه ذلك على الظلم قائلا: إن دعاء الصالح ليدل على أنه يراني من أهل الخير، و أن ما يخطر لي من التأويل في هذه الأمور التي يزعم الناس أنها ظلم هو تأويل صحيح ! و ما من ظالم إلا والشيطان يوسوس له بتأويل ما يبرر به صنيعه.
وإن استبعد دعاءك له اعتقد كذبك و مداهنتك له، وطمع منك في غيرها، وزالت من قلبه هيبته لك في الله، و أوشك أن تنالك منه مضرّه لسقوطك من عينه، و يتجرأ مع ذلك على المظالم قائلا: الناس سواسية، هذا الذي يقال صالح يكذب و يداهن الظلمة ! فلو استطاع لظلم !!
و إذا تنبه لاحتمال كلامك التورية لم تأمن أن يحمل قولك :"دعوت لك " على " دعوت عليك "، يقول : كأنه أراد " دعوت لأجلك"، أي : دعوت الله - عز وجل - أن يريح الناس من شرك، أو نحو ذلك.
و الحاصل : أن الكذب لا يخلو من المفاسد، و لكن إذا تعين طريقا لدفع مفسدة عظيمة ـ كالقتل ظلما ـ جاز على قاعدة تعارض المفسدتين.
و المنقول من هذا إنما هو في التورية، كقول إبراهيم لزوجته : هي أختي، لعلمه أنه لو قال : زوجتي، لقتلوه.
وقوله: ﴿ إني سقيم ﴾، لأنه أراد أن يتوصل إلى تكسير أصنامهم، و في ذلك دفع مفسدة عظيمة.
(١/٥)