وقد أجاز جمهور العلماء تأخير البيان إلى وقت الحاجة، فأجازوا أن يرد نص في الحج مثلا يكون وروده في شهر محرم، و لذلك غير عام، أو مطلقا وهو في علمه - عز وجل - مقيد، أو فيه كلمة مستعملة في علم الله - عز وجل - في غير ما وضعت له، و لم تصحب النص قرينة، ثم حين حضور الحج يبين الله - عز وجل - الخصوص و التقييد.
و الوجه في ذلك : أن المخاطبين لما علموا من عادة الشريعة أنها قد يقع فيها صار ذلك الظاهر غير ظاهر عندهم، بل هو محتمل فقط، فإذا جاء وقت العمل، و لم يبين ما يخالف ذلك الظاهر علما حينئذ أنه مراد.
بل قد يقال : لا حاجة إلى علم المخاطبين بعادة الشريعة في ذلك، و يكفي أن ذلك جار في العادة مطلقا، فلو كان لرجل خمسة من الولد صغار، فقال لخادمه : اذهب بالأولاد يوم الخميس إلى المستشفى للتطعيم ضد الجدري و ندما تريد الذهاب أخبرني، فإن الخادم إذا تدبر هذا الكلام قال نفسه : كلمة "الأولاد" تشمل الخمسة كلهم، و يمكن أن يكون أراد الخمسة كلهم، و يمكن أن يكون أراد ثلاثة أو أربعة منهم، على كل حال فحين أريد الذهاب أخبره فيظهر ما هو مراده.
و إنما أوردت في المثال :"وعندما تريد الذهاب أخبرني " ؛ لأنه لو لم يقل ذلك لضعف احتمال الخصوص جدا ؛ لأن الإنسان يعلم أنه ربما ينسى، أو يغفل أو ينام أو يمرض أو يموت أو يغيب، وإذا عرض له شيء من ذلك عند حضور الوقت فإن الخادم يذهب بالأولاد الخمسة، فلو كان يريد الخصوص لاحتاط.
فأما الرب - عز وجل - فإنه منزه عن تلك العوارض، فأمره على الإحتمال حتى يحضر وقت العمل بدون حاجة إلى ما يقوم مقام قول الإنسان " : و عندما تريد الذهاب أخبرني "، و كذلك أمر نبيه عليه الصلاة و السلام ؛ لأنه مبلغ عن الرب، و الرب تعالى متكفل بحفظه أن يعرض له شيء من تلك العوارض يمنع من البيان قبل وقت الحاجة
(١/٤٩)


الصفحة التالية
Icon