و بهذا أو نحوه فسر ما جاء في الصحيح، أن النبي - ﷺ - كان إذا أراد غزوة ورّى بغيرها. و ليس ذلك بكذب، على أن من شأن من يريد غزوة أن يكتم قصده، و يحرص على إيهام العدو أنه لا يقصدهم، و هذا شبه قرينة تشكك في الإيهام المذكور،
ثانيها: الكلام الموجه : و هو الذي يحتمل معنيين فأكثر على السواء، و ليس هذا أيضا من الكذب في شيء البتة.
ثالثها: أن يكون الكلام ظاهرا في المعنى المراد، و لكنه صيغ مصاغا يستخف المخاطب، فإذا استعجل فهم خلاف المقصود.
و قد نقل شيء من هذا عن النبي - ﷺ -، كان ربما تعمده تأديبا للمخاطبين، و تعليما لهم أن لا يستعجلوا في فهم الكلام قبل التروي فيه، فمن ذلك :
ما روي أن رجلا سأله أن يحمله على بعير، فقال - ﷺ - :" لأحملنك على ولد ناقة "، فاستعجل الرجل و قال : و ما أصنع بولد ناقة ؟! فقال - ﷺ -: " و هل تلد الإبل إلا النوق ؟".
العرف قد صير الظاهر من ولد ناقة، أو ولد بقرة، أو نحو ذلك هو الصغير و لكن قوله :" لأحملنك " قرينة واضحة أنه لم يرد الصغير لأن الصغير لا يحمل عليه.
و مثله ما يروى : أن امرأة مرت تسأل عن زوجها ـ و قد كان خرج من عندها قبل قليل ـ فقال لها ( :" هو ذاك في عينيه بياض "
فالعرف قد جعل الظاهر من قولنا :" في عيني فلان بياض " هو البياض العارض، و لكن العادة قاضية بأن البياض العارض لا يحدث في ساعة.
و منه ما يروى أنه قال ـ لامرأة من المسلمات قد قرأت القرآن و فهمته ـ :" لا تدخل الجنة عجوز! "فلما فزعت قال لها :" أما تقرئين القرآن :: ﴿ إنا أنشأنهن إنشآء * فجعلنهن أبكارا ﴾ ؟"[الواقعة: ٣٥–٣٦]
(١/٧)