ومنها أن سورة آل عمران ذكر فيها قصة أحد مستوفاة، وذكر في هذه السورة ذيلها، وهو قوله: (فما لكُم في المنافقين فئتين) فإنها نزلت لما اختلف الصحابة فيمن رجع من المنافقين من غزوة أحد، كما في الحديث ومنها: أن في آل عمران ذكرت الغزوة التي بعد أحد بقوله: (الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أَصابهُم القرح) وأشير إليها هنا بقوله: (ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإِنَهُم يأَلمونَ كما تأَلمونَ) وبهذين الوجين عرف أن تأخير النساء عن آل عمران أنسب من تقديمها عليها في مصحف ابن مسعود، لأن المذكور هنا ذيل ما في آل عمران، ولاحقه وتابعه، فكانت بالتأخير أنسب ومنها: أنه ذكر في آل عمران قصة خلق عيسى بلا أب، وأقيمت له الحجة بآدم، وفي ذلك تبرئة لأمه، خلاقاً لما زعم اليهود، وتقرير لعبوديته، خلاقاً لما ادعته النصارى، وذكر في هذه السورة الرد على الفريقين معاً: فرد على اليهود بقوله: (وقولِهِم علىَ مريم بهتاناً عظيماً) وعلى النصارى بقوله: (لا تغلو في دينكُم ولا تقولوا على الله إِلا الحق إِنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته أَلقاها إِلى مريم ورح منه) إلى قوله: (لن يستنكف المسيح أَن يكون عبداً لله) ومنها: أنه لما ذكر في آل عمران: (إِني متوفيك ورافعك إِلى) رد هنا على من زعم قتله بقوله: (وقولِهم إِنَّا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإِن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه مالهم به من علم إِلا اتباع الظن وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إِليه) ومنها: أنه لما قال في آل عمران في المتشابه: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا) قال هنا: (لكن الراسخون في العلم والمؤمنون بما أُنزل إِليك) ومنها أنه لما قال في آل عمران: (زُينَ للناسِ حُبَّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا) فصل هذه الأشياء في السورة التي بعدها على نسق ما وقعت في الآية، ليعلم ما أحل الله من ذلك فيقتصر عليه، وما حرم فلا يتعدى إليه، لميل النفس إليه فقد جاء في هذه السورة أحكام النساء، ومباحاتها، للإبتداء بها في الآية السابقة في آل عمران، ولم يحتج إلى تفصيل البنين، لأن تحريم البنين لازم، لا يترك منه شيء كما يترك من النساء، فليس فيهم مباح فيحتاج إلى بيانه، ومع ذلك أشير إليهم في قوله: (وليخشَ الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً) ثم فصل في سورة المائدة أحكام السراق، وقطاع الطريق، لتعلقهم بالذهب والفضة الواقعين في الآية بعد النساء والبنين ووقع في سورة النساء إشارة إلى ذلك في قسمة المواريث ثم فصل في سورة الأنعام أمر الحيوان والحرث، وهو بقية المذكور في آية آل عمران فانظر إلى هذه اللطيفة التي من الله بإلهامها! تم ظهر لي أن سورة النساء فصل فيها ذكر البنين أيضاً، لأنه لما أخبر بحب الناس لهم، وكان من ذلك إيثارهم على البنات في الميراث، وتخصيصهم به دونهن، تولى قسمة المواريث بنفسه، فقال: (يوصيكم اللَهُ في أَولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) وقال: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب) فرد على ما كانوا يصنعون من تخصيص البنين بالميراث، لحبهم لهم، فكان ذلك تفصيلاً لما يحل ويحرم من إيثار البنين، اللازم عن الحب، وفي ضمن ذلك تفصيل لما يحل للذكر أخذه من الذهب والفضة، وما يحرم ومن الوجوه المناسبة لتقدم آل عمران على النساء: اشتراكها مع البقرة في الافتتاح بإنزال الكتاب، وفي الافتتاح ب (الم) وسائر السور المفتتحة بالحروف المقطعة كلها مقترنة، كيونس وتواليها، ومريم وطه، والطواسين، و (الم) العنكبوت وتواليها، والحواميم، وفي ذلك أول دليل على اعتبار المناسبة في الترتيب بأوائل السور ولم يفرق بين السورتين من ذلك بما ليس مبدوءاً به سوى بين الأعراف ويونس اجتهاداً لا توقيفاً، والفصل بالزمر بين (حم) غافر و (ص) وسيأتي ومن الوجوه في ذلك أيضاً: اشتراكهما في التسمية بالزهراوين في حديث: (اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل عمران) فكان افتتاح القرآن بهما نظير اختتامه بسورتي الفلق والناس، المشتركتين في التسمية بالمعوذتين


الصفحة التالية
Icon