﴿ وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [ الذاريات : ٥٦ ].
وفي « لَعَلّ » لغاتٌ كثيرةٌ، وقد يُجَرُّ بها؛ قال :[ الوافر ]

٢٧٩- لَعَلَّ اللهِ فَضَّلَكُمْ عَلَيْنَا بِشَيْءٍ أَنَّ أُمَّكُمُ شَرِيمُ
ولا تنصب الاسمين على الصحيح، وقد تدخل « أَنْ » في خبرها؛ حملاً على « عَسَى » ؛ قال :[ الطويل ]
٢٨٠- لَعَلَّكَ يَوْماً أنْ تُلِمَّ مُلِمَّةٌ .......................
وقد تأتي للاستفهام والتعليل كما تقدم، ولكن أصلها أن تكون للترجّي والطمع في المحبوبات والإشفاق من المكروهات ك « عسى »، وفيها كلام طويل يأتي في غضون هذا الكتاب إن شاء الله تَعَالَى.
و « تَتَّقَونَ » أصله « توتقيون » ؛ لأنه من « الوقاية »، فأبدلت الواو ياء قبل تاء الافتعال، وأدغمت فيها، وقد تقدم ذلك في « المتقين »، ثم استثقلت « الضّمة » على « الياء » فقدرت، فسكنت الياء والواو بعدها، فحذفت الياء لالتقاء السَّاكنين، وضمت القاف لتجانسها، فوزنه الآن « تفتعون »، وهذه الجملة أعني « لعلكم تتقون » لا يجوز أن تكون حالاً؛ لأنها طلبية، وإن كانت عبارة بعضهم تُوهمُ ذلك، ومفعول « تتقون » محذوف أي : تتقون الشرك، أو النار.
فَصْلٌ في الاستدلال بالآية على الصانع
هذه الآية تدلّ على الصانع القادر الفاعل المختار، سأل بعض الدهرية الشَّافعي -رضي الله تعالى عنه- ما الدَّليل على الصانع؟ فقال : ورقة الفِرْصَاد طعمها ولونها وريحها وطبعها واحد عندكم؟ قالوا : نعم.
قال : فتأكلها دودة القَزّ فيخرج منها الإبْرَيْسم، ويأكلها النحل فيخرج منها العَسَل، والشَّاة فيخرج منها البَعَر، وتأكلها الظِّبَاء فينعقد في نوافجها المسك، فمن الذي جعلها لذلك مع أن الطَّبع واحد؟ فاستحسنوا ذلك وآمنوا على يديه، وكانا سبعة عشر.
وسئل أبو حنيف -Bه- عن الصَّانع فقال : الوالد يريد الذكر، فيكون أنثى، وبالعكس فيدلّ على الصَّانع. وتمسك أحمد بن حنبل بقلعة حصينة مَلْسَاء لا فُرْجَةَ فيها، ظاهرها كالفضّة المُذّابة، وباطنها كالذهب الإبريز، ثم انشقت الجدران، وخرج من القلعة حيوان سميع بصير، فلا بُدّ من الفاعل؛ عنى بالقلعة البيضة، وبالحيوان الفرخ.
وقال آخر : عرفت الصَّانع بنحلة بأحد طرفيها عسل، وبالآخر لسع، والعسل مقلوب لسع. فإن قيل : ما الفائدة في قوله ﴿ والذين مِن قَبْلِكُمْ ﴾، وخلق الذين من قبلهم لا يقتضي وجوب العبادة عليهم. والجواب : أن الأمر وإن كان على ما ذكر ولكن علمهم بأن الله -تعالى- خلقهم كعلمهم بأنه خلق من قبلهم؛ لأن طريقة العلم بذلك واحدة.
وأيضاً أن من قبلهم كالأصول لهم، وخلق الأصول يجري مجرى الإنعام على الفروع، كأنه -تعالى- يذكرهم عظيم إنعامه عليهم، أي : لا تظن أني إنما أنعمت عليك حين وجدت، بل كنت منعماً عليك قبل أن وجدت بألوف سنين، بسبب أني كنت خالقاً لأصولك.


الصفحة التالية
Icon